عهدى صادق
فقدت مع أصدقائى المقربين ومع الجمهور المحب للصادقين، أمس الأول، واحدًا من أرق وأجمل من عرفنا، الفنان الزاهد المستغنى البسيط المبهج قليل الكلام، الذى لم يشاهد يغتاب أحدًا.
الفنان عهدى صادق، الذى أعرفه منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وقطعت معه شوارع القاهرة التى يعرفها ويعرف دهاليزها ودهاليز ليلها عز المعرفة، لم ألحق مرحلته مع الشاعر العظيم صلاح جاهين، ولكننى عرفته عن قرب مع أحمد فؤاد نجم فى حوش قدم فى الغورية.
عرفته مع المخرج الكبير على بدرخان بصحبة أحمد زكى وشوقى شامخ وسعيد طرابيك والمونتير أحمد متولى ومحمد متولى ومحمد كامل، عرفته عند سعيد صالح ومحمود مسعود، عرفته وهو يذهب إلى موالد أهل البيت وشاهدته وهو يصفق كالأطفال مع موسيقى الذكر ويتطوح مع الذاكرين، وهو المسيحى الذى لم يعرف معظم محبيه هذا إلا قبل أيام، تجاهله المخرجون والمنتجون فى السنوات الأخيرة رغم موهبته الكبيرة، وكان عندما يلتقيه أحد معجبيه ويسأله عن سر اختفائه، يقول له وهو يضحك: «أصلهم مش شايفينى علشان قصير. وبلعب عقلة اليومين دول علشان أطول.. يمكن يشوفونى»!، نشرت الصحف أنه من مواليد ١٩٥٠، ولكن أصدقاءه يؤكدون أنه أكبر من ذلك بخمس سنوات، عاش عهدى وحيدًا، ولكنه كان يملأ حياة كل من عرفه.
حكى الدكتور محمد أبوالغار أنه اتصل به ليكون عضوًا فى لجنة تحكيم جائزة ساويرس، وهى العضوية التى يتكالب عليها نجوم الفنون كلهم، بسبب المكافأة المجزية وتسليط الإعلام عليها، ولكنه اعتذر لأنه غير مؤهل كحكم على أعمال مسرحية أو سينمائية.
والذين اقتربوا من عهدى يعرفون ثقافته الرفيعة، ومتابعته لكل الأنشطة الفنية والأدبية فى مصر، ومعرفته القديمة المتجددة بفن المسرح عربيًا وعالميًا، رفض وهو لا يعمل، كنت أعتقد أننى كنت محظوظًا طوال حياتى، لأننى أعرف أشخاصًا مثل عهدى وطرابيك وسعيد صالح ومسعود الفيشاوى وإسماعيل محمود، وغيرهم من الذين عشت بينهم وبهم سنوات عمرى.
لم تكن علاقات مرتبطة بالصحافة أو أى سبب آخر، كانت بيننا أخوة عريقة وليالٍ طويلة من البهجة والصدق، كان ساخرًا من طراز فريد، وحين يموت أحدهم أشعر بأننى فقدت جزءًا من روحى، وعهدى منزلته كبيرة فى قلبى، لأنه كان يغمرنى بمودته، ويبحث عنى إذا اختفيت.
وعندما كنت أشكره كان يقول: «يا راجل دا إحنا نعرف بعض من آلاف السنين»، ولو لم يجد من يسخر منه يسخر من نفسه، كان متصالحًا من قصر قامته، ولكنه لم يترك من هم فى طوله فى حالهم.
كان عفيف اللسان، رغم مقالبه الشهيرة، عاش كما أراد، ولم يطرق باب أحد بحثًا عن دور فى مسرحية أو فيلم أو مسلسل، كان يؤمن بأن الأرزاق بيد الله، عمل كثيرًا ولم يطلب شيئًا من أحد، عاش خفيفًا ورائقًا وراضيًا بما قسم الله، كان متسامحًا وخدومًا، يسأل عن الكبير والصغير.
عاش عنوانًا للبهجة والعذوبة، موهبته الكبيرة حمته من أمراض النجومية، تشعر وأنت تمشى معه فى الحوارى أنه على معرفة شخصية مع الشعب كله، بساطته فى التعامل مع البشر فتحت له قلوب البشر، عهدى صادق ليس ممثلًا أحبه الناس ولا صديقًا يعرف منزلته عارفو أصول الصداقة، ولكنه إلى جوار ذلك هو رمز مصرى نبيل يصعب نسياته، رحيله أوجع كل من اقترب منه، لأنه سيترك فراغًا كبيرًا فى حياتنا، بعد رحيل عهدى بدأت كلمات جبران خليل جبران ترن فى أذنى:
- «ما زلت أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، وإنما يموت بطريقة الأجزاء، كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتى الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة، فيحملها ويرحل»، رحمة الله عليك يا صديقى.