«القداس الأخير».. رواية تكشف كيف تجنّد المراكز الإسلامية الإرهابيين؟
كان الفرنسي روبير ريشار أنطوان، الذي انضم لصفوف السلفية الجهادية، على رأس من سجنوا على خلفية تفجيرات الدار البيضاء التي استهدفت عدة أماكن في المغرب عام 2003.. وفي التحقيقات معه ومن ضمن ما قاله، اعترف روبير بأن علاقته بزوجته المغربية ساءت بسبب تشدده الديني وإغلاقه البيت عليها أثناء وجوده في الخارج ورفضه السماح لها بزيارة أفراد عائلتها لإبعادها عن "الغرباء"، ففكر في الزواج من أخرى، وبالفعل تزوج زوجة جديدة سلفية، ولاحقا طلق زوجته الأولى.
قصة روبير ريشار أنطوان واحدة من عشرات القصص التي تدلنا على كيفية التحاق مئات الغربيين الأوروبيين بالتنظيمات الإرهابية، وتحل العديد من علامات الاستفهام الملغزة حول تحولهم من كل ما تتسم به الحياة الغربية إلى إرهابيين يقتلون تحت راية الدين الإسلامي.. وهو ما نسجه بسرد روائي خيالي محكم الروائي الشاب "ولاء كمال" في روايته "القداس الأخير" والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للنشر.
فعلى النقيض من "ريشار" اعتنقت بطلة الرواية "ماري" الإسلام على خلفية لقائها البطل الراوي، في إحدى المدن الساحلية المصرية، وكيف كانت أخلاقه سببا دفعها للقراءة عن الإسلام وتعاليمه، وكيف ذهبت لأحد المراكز الإسلامية في مدينتها الأوروبية فيما بعد لتلقي الدروس الدينية والتعرف أكثر على الإسلام.. فما جذب ماري للبطل ومن ثم وقوعها في حبه، أنه على عكس الشباب والرجال الذين تعرفهم في وطنها، لم يحاول أبدا أن يتلاقي معها جسديا، بل كان يتعامل معها كإنسان وليس كامرأة أوروبية متاحة سهلة المنال.
ورويدا رويدا، نكتشف من خلال السرد الروائي الحياة الماضية التي عاشتها ماري وأوصلتها في النهاية أن ترتدي حزاما ناسفا لتفجر وتحرق الكنيسة التي شهدت قداسها الأخير في ليلة عيد الميلاد، وليلقى أصدقاؤها وبعض من أهلها نحبهم في هذا الانفجار.
نستشف، دون أن يذكر الكاتب التفاصيل، تلك الحياة الصاخبة الماجنة التي عاشتها ماري منذ الطفولة فالمراهقة وحتى صارت امرأة، وكيف انخرطت في جنون الشباب الغربي، الماجن، منه، من أول الإدمان على المخدرات وشرب الكحوليات، مرورا بالعلاقات الجنسية المفتوحة بلا أي ضوابط أو معايير، حتى إن هؤلاء الشباب الذين انتهكوا حياة ماري ودمروها كانوا سببا في أن تلقي حتفها كأشلاء متناثرة.
غير أن الراوي لا يتبنى المقولات الجاهزة والأفكار السائدة عن طبيعة الحياة في الغرب، من أنها حياة انحلال وسقوط أخلاقي وضياع حتى على المستوى الجسدي لأفراده وانخراطهم في العلاقات الجنسية بالشكل المبتذل، فهناك الكثيرين من المحافظين في هذه المجتمعات، وربما تتقارب أفكارهم حول الدين والجسد والحياة من الأفكار الشرقية، وهو ما تمثله "كارين" شقيقة ماري، والتي تربت ونشأت معها في ذات البيئة ونفس العائلة لكنها كانت فتاة ناجحة لم تنخرط سواء في مراهقتها أو شبابها في الحياة الصاخبة الماجنة كأختها ماري، بل كانت متفوقة في دراستها ملتزمة بها، فكان أن نجحت في حياتها العملية فيما بعد، وهو ما يشير إلى أن هذه المجتمعات كغيرها من المجتمعات في أي مكان في العالم، بها الأفراد الملتزمون المحافظون وبها الماجنون الصاخبون المتردون في قاع هذه المجتمعات، ومن ثم تضيع حياتهم إن لم يعدلوا مساراتهم فيها.
كما يحطم الكاتب الصور الذهنية الجاهزة والمسبقة الرائجة بيننا عن مدى تقدم المجتمعات الغربية وتحضرها، خاصة فيما يتعلق بتذوق الفن والإلمام بتاريخه.. فبينما الراوي بطل الرواية ملم بتاريخ وفنون عصر النهضة، قادر على نقده وتتبع مساره، كانت ماري المنتمية لتلك الحضارة صاحبة هذه الفنون على جهل تام بها، بل وكانت تشعر بالملل والضجر في كل مرة يصحبها الراوي لزيارة المتحف الشهير، وتسخر منه مندهشة لإنجذابه ومكوثه الساعات أمام لوحاته، حتى إنها تخبره بأنها حينما جاءت لهذا المكان خلال رحلة نظمتها مدرستها كانت تعد الدقائق لتهرب من المتحف والجولة فيه.
كما ترصد الرواية الدور الذي تقوم به المراكز الإسلامية في أوروبا لتجنيد الغربيين للتنظيمات الإرهابية سواء القاعدة وداعش أو غيرهما من هذه التنظيمات، فتحول ماري إلى شخصيتها الإرهابية وأفكارها التكفيرية المتطرفة جاء بعد زواجها من "محمد قابل"، أحد المسئولين عن المركز والذي يلقي فيه الدروس الدينية للمترددين عليه سواء من أبناء الجاليات العربية المسلمة المقيمين في هذه الدول، أو حتى من الغربيين أنفسهم الذين يرغبون في اعتناق الإسلام.
فما أن تزوجت ماري بــ"قابل" حتى ارتدت النقاب رغم أنها لم تفكر فيه خلال زواجها الأول من الراوي، حيث نجح قابل في غرس الأفكار المتطرفة عن الإسلام في رأسها، حتى إنها بدأت تكفر أفراد عائلتها وتمنعهم من تناول النبيذ خلال الأعياد عندما تزورهم، ومع الوقت قاطعتهم نهائيا كونهم كفارا يجب عليها قتالهم كما أقنعها وغرس في عقلها قابل، حتى وصلت في نهاية رحلتها إلى أن فجّرت نفسها في الكنيسة والموجودين فيها خلال الاحتفال بليلة عيد الميلاد.
على الجانب الآخر من الرواية، التي يمكن تصنيفها بأنها من الروايات التي تتناول علاقة الشرق بالغرب، نجد البطل الراوي يعاني هو الآخر من الازدواجية الفكرية والقيمية، فطوال الوقت كان البطل يشعر ماري بأنها "عاهرة" مدانة، يضغط عليها ليعرف من لمسوا جسدها وأقامت معهم علاقات جنسية قبل أن تتزوجه أو تعرفه، رغم ما كان يردده على سمعها طوال الوقت بأنه يسامحها ولا يملك الحق من الأساس في أن يحاكمها على ماضيها، في الوقت الذي تشي به تصرفاته حيالها من نقمته وغضبه على هذا الجزء من حياتها، وهو ما دفعها في الأخير أن تهرب منه وتنفصل عنه بالطلاق نهائيا.
"القداس الأخير" سرد روائي صاغه ولاء كمال بسلاسة وإحكام، ومشهدية عالية ترشح الرواية لأن تصبح عملا دراميا يشهد بمولد روائي أمامه مستقبل باهر في الحياة الأدبية والثقافية المصرية، بقدرته العالية على صياغة حكاية روائية خيالية، لكننا نراها في كثير من الوقائع الحقيقية التي جرت للعديد ممن اعتنقوا الإسلام من الغربيين عن طريق السلفية الجهادية أو حتى المراكز الدينية في الغرب.