جدليات فكرية.. هل الفلسفة والدين وجهان لعملة واحدة؟
في عام 1953 نشر المفكر المصري زكي نجيب محمود كتابا اسماه "خرافة الميتافيزيقا" وواجه الكتاب هجمة قوية من المعارضين له باعتبار أنه نوع من إنكار الدين لأن الميتافيزيقا تعبير عن العلوم الغيبية وهي أصل الإيمان بالله تعالى، واتهم الكثيرون ابو ريدة بإنكار الدين، منذ نشر الكتاب مباشرة إلى اليوم، ومنهم نشر مؤلفات كاملة للرد على المؤلف سواء كانوا من اتباع المنج السلفي أو الفلاسفة الذين اعتبروا أن الكتاب يهدم نصف الفلسفة أو الفلسفة كلها.
انتقادات الدكتور محمد البهي
ومن الذين هاجموا الكتاب بشراسة الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف الأسبق وكان
وقتها عضوا بمجمع البحوث الإسلامية، ومما قاله:
"كان من مظاهر التجديد في الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشري،
ترديد الفكر الغربي في القرن التاسع عشر.
ولم يكن الترديد ترديد النافع منه الذي يصح أن يثمر في الجماعة الإسلامية
الناهضة، كالفكر العلمي: في مجال التعمير والهندسة، في مجال الطب، في مجال
الكيمياء، في مجال الطبيعة أو الرياضة البحتة، وإنما كان ترديدا لفكر المستشرقين
كما رأينا من قبل، أو للفكر المادي على نحو ما نذكر هنا.
وعند ترديد هذا الفكر باسم التجديد، قد يردد مشوها أو محرفا- كما سنرى-،
مما يزيد الأمر لبسا، ويدفع إلى الشك السلبي، على نحو ما قيل بين طلاب الجامعة:
"الدين إيحاء خرافي"!
هنا في التعليم الجامعي في بعض كليات الآداب يدرس كتاب "خرافة الميتافيزيقا"
وهو كتاب منقول من الفكر الأوروبي المادي الذي أشرنا إليه هذا الكتاب يصور الهدف
الرئيس منه في العبارة الآتية:
(الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي: بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من
المعنى، مع تحديد الميتافيزيقا بأنها البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا
إمكانا، لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس)(1).
لم يذكر الكتاب في سطر واحد منه أن المراد من قوله "البحث في اشياء لا
تقع تحتالحس، لا فعلا ولا إمكانا هو (الفلسفة الميتافيزيقية) وحدها دون الحقائق
الدينية، كما صرح بذلك مثلا أوكام فيما نقلناه عنه من قبل وبهذا يمكن أن يضع أمام
قارئه من أول الأمر أنه يهدف إلى مناقشة البحث الفلسفي الإنساني الذي له طابع ما
بعد الطبيعة، أما الدين ورسالتهـ أما الإسلام على وجه أخص فأمر آخر.
وبذلك يبتعد القارئ عن اللبس، ويصون قدسية الدين، في الوقت الذي يناقش فيه
صنعة الإنسان، وهي صنعته الميتافيزيقية"(2).
مؤيد ومعارض
ونقل الدكتور أحمد ماضي عن الدكتور عبدالهادي أبو ريدة قوله:
"إن الوضعية المنطقية تعد محاولة جديدة لهدم الفلسفة المثالية، وهدم
الميتافيزيقا بقصد غير صريح وهو محاربة الإيمان بوجود الله وكل ما يتجاوز عالم
الحس. ويجزم ابوريدة بأن استخدام التحليل المنطقي على يد الوضعيين المناطقة يؤدي
إلى زعزعة الإيمان وأن موقفهم هذا فاسد إلى حد السخف، وأنهم يضيقون نطاق امعرفة
إلى أقصى حد"(3).
ولم تكن هذه الهجمة خالية من تأييد للمفكر المصري زكي نجيب محمود ومن الذين
ايدوه المفكر محمود أمين العالم الذي قال
عنه:
"إن زكي نجيب محمود هو الصوت الوحيد الذي يعبر عن الفلسفو الوضعية في
شرقنا العربي"(4).
ردود زكي نجيب محمود
ومع هذا الهجوم على زكي نجيب محمود إلا أنه يأتي بعد ذلك بعدة أعوام ويرد
على مهاجميه ويثبت في رده أن الفلسفة شيء والدين شيء آخر، فالفلسفة لديه صنيعة
بشرية، أما الدين وبالأخص الإسلام يعتمد على وحي السماء، ويثبت أن الميتافيزيقا شيء
مخترع ويمكن أن تتعدد انبنيته بحسب كل فيلسوف، أما الدين شيء آخر يتميز بالوحدانية
تبعا لوحدانية المصدر.
ويحكي زكي نجيب محمود في كتابه "قيم من التراث" عن هذه الأزمة
فيقول:
"فقد حدث أن نشرت كتابا سنة 1953، اسميته إذ ذاك "خرافة
الميتافيزيقا" وأعدت طبعه منذ قريب جاعلا عنوانه "موقف من
الميتافيزيقا" وطبقت في ذلك الكتاب منهجي الفلسفي في النظر إلى ما ينتمي إلى
مجال العلم، وبينت كيف أن البناء الفكري الذي يولده الفيلسوف من مبدأ معين هو
بمثابة التوأم للبناء الرياضي الذي يقيمه عالم الرياضة- مثل إقليدس في علم
الهندسة- ففي كلا الحالتين:
البناء الميتافيزيقي، والبناء الرياضي، نقول عنه إنه صحيح، إذا وجدنا
النتائح مستدلة استدلالا صحيحا من المبدأ – في حالة الميتافيزيقا- ومن المسلمات-
في حالة الرياضة- أي أن البناء المعين من النوعين لا تتوقف صحته علة كونه مطابقا
للواقع الطبيعي، فإذا زعم لنا فيلسوف أن بناءه الميتافيزيقي يصف الكون كما هو
واقع، عارضناه في ذلك، كما يعارض عالم الرياضة إذا زعم أن صحة نظرياته الرياضية مستمدة
من أنها مطابقة للواقع الطبيعي"(5).
ثم يذكر زكي نجيب أحمد اسباب سوء الفهم في كتابه فيقول:
"فلما نشرت الكتاب المذكور، غضب كثيرون، على ظن منهم أنه مادام الكتاب ينفي أن يكون فيلسوف الميتافيزيقا محقا في جعل بنائه الفكري مطابقا بالضرورة لدنيا الواقع، فكان الكتاب المذكور ينفي أيضا أن تكون العقيدة الدينية في إله موجود محقة فيما ذهبت إليه!"(6).
ويوضح زكي نجيب محمود الفرق لديه بين الفلسفة والدين فيقول:
"وأعود بالقارئ إلى الحقيقة التي رجوته أن يحفظها في ذهنه جيدا، وهي أن الفيلسوف إذ يبني بناءه الميتافيزيقي، فإنما يقيمه على مبدأ من عنده وأن أي فيلسوف آخر من حقه كذلك أن يقيم بناء آخر على مبدأ من عنده، وبذلك تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد أصحابها.
وأما في حالة الدين فالأمر مختلف أشد ما يكون الاختلاف، لأن البناء الديني قائم على وحي مُنزًّل، وليس من حق أحد آخر أن يبني دينا على شيء آخر من عنده هو اللهم إلا إذا كان خارجا على هذا الدين، وعندئذ لا يحسب له حساب، فبينما تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد الفلاسفة يظل البناء الديني واحدا لوحدانية الموحي به والموحى إليه، وإذا جعلنا حديثنا هنا مقصورا على الإسلام، قلنا إن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، تتضمن فيما تتضمنه، وحدانية من أوحى بالدين، ومن نزل عليه الوحي، وذلك يستتبع أن يظل البناء الديني عند المؤمنين به واحدا عند الجميع"(7).
_____________
هوامش
(1)خرافة الميتافيزيقا، زكي نجيب محمود، 11.
(2) الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي، 284- 285.
(3)انظر: الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، (الوضعية المحدثة والتحليل المنطقي في الفكر الفلسفي العربي المعاصر)، أحمد ماضي، ومجموعة من الباحثين، 174 وما بعدها، وانظر أيضا مباديء الفلسفة والأخلاق، أبوريدة، 177.
(4) الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، 176.
(5)قيم من التراث، زكي نجيب محمود، 119-120.
(6)السابق:120.
(7)السابق: 120-121.