«العقل والنقل».. جدليات المذهبية والاستنارة
أثيرت عبر تاريخ الأفكار قضية النقل والعقل والصراع بينهما، ومازال هناك إلتباس حاضر بين فريقين، فريق يري تقديم العقل علي النقل، وفريق يري تقديم النقل علي العقل، ومن هنا يقع البعض في التناقض بين مفهوم النص المقدس الإسلامي، وبين قبول النص التراثي الذي اعتبره فريق العقل به مخالفات قد تحض علي العنف، وبالتالي أصبحنا بالفعل ما بين مطرقة الفهم الخاطئ للنص الإلهي وسندان ثقيل ورثناه من النص التراثي.
ومن هنا أقصى البعض المقدس بنقائه علي حساب الفهم المعاصر للنص وجعلنا في حيرة في تلقي التراث بحاله، هذا بالضبط ما يناقشه الباحث ساهر رافع في كتابة الجديد "العقل والنقل.. تحرير العقل المسلم، والذي من المنتظر أن يحدث حوله المعارك الفكرية بين أصحاب الفريقين لينتصر فريق للأخر أو نستطيع أن نفض بعض النقاط الملتبسة في الذهنية العامة لمفهوم النص المقدس وعلاقته بالواقع لتحرير العقل المسلم.
الكتاب يقع في 336 صفحة من القطع الكبير من إصدارات مركز الحضارة العربية، ويناقش أزمة تشوية العقل المسلم، وقصة توقفه عن التفاعل والانفعال مع النص من خلال القيام بعملية إعمال العقل وهي الخطوة التي يدفع النص المقدس نحو الولوج إليها بقوة مستظلًا بالجسارة من أجل فهم الواقع، ومن ثم فهم النص على ضوء معطيات الآن من خلال علوم ومعارف إنسانية جديدة ومستحدثة لم تكن في العصور القديمة التي نشأت فيها مذاهب الفقه الإسلامي، إلا أن واقع الأمر وبالنظرة المحايدة المجردة التي تؤكد تمسك الذهنية العربية الإسلامية بالأفكار القديمة وهو ما أدى مع تراكم الروايات إلى أن تتحول النصوص من التراثي إلى مقدس.
ويتضمن الكتاب عدة موضوعات رئيسية أبرزها تعريف تحديد ما هو الدين وتعيين الإلهي توضيح ما هو التراثي، كما يستعرض الكاتب الغرض منه فيبرز مسألة فك التداخلات بين ما هو مقدس وما هو تراثي من خلال تحديد ماهية المقدس توضيح كنه واصل التراثي في نفس الوقت.
ويستعرض الكتاب بصراحة وعمق المزايا الذاتية للمقدس من حيث إنه تام كامل، مع التأكيد على أن شرح المقدس وتفسيره لا يعد في ذاته أنه مقدس، ومن ثم فهو تراثي قابل للنقاش والتحليل والفهم.
وأعتبر ساهر في كتابه الجديد مفاهيم او مصطلحات مثل (الإلهي، المقدس، القرآن) هي النص الأساسي وهو القرآن، ومن ثم فهو البوصلة والموجه لأية نصوص أخرى، مع فك التداخل المصطنع ـ علي حد وصفه ـ بين التراثي والإلهي النقي مع إثبات أنه لا يجوز أن يقوم التراثي بإقصاء الإلهي تحت أية ذريعة أو حجة أو سبب لكي لا يحدث التناقضات الحادثة اليوم، سواء مع النص أو مع الفهم أو مع الواقع المُعاش.
ويعد أهم ما في كتاب ساهر وهو في تقدير بعض الباحثين ما سيفتح عليه المعارك هو نقض الأقوال التراثية والتي تحدث عنها في جراءة فقد زعم أن (التراثي ،السُّنة ، الأحاديث) في غير حاجة إلي الإلهي المقدس وهو القرآن، في حين أن القرآن ـ علي حد وصفه ـ وهو الكتاب الإلهي المقدس الذي لا يحتاج إلى ( السُّنة ، الأحاديث ، التراثي) ونقل كلام للأئمة مثل الأوزاعي، الشوكاني، الدارمي، ويحيى بن كثير، قالوا بأن السُّنةالأحاديث قاضية على الكتاب.
كما نقد المؤلف موضوعات خطيرة نحتاج إلي نقاش أوسع من مجرد كتاب من قبل المتخصصين في مجالات الفقه وأصوله والعقيدة وأركانها والشريعة وأصولها مثل مسالة الناسخ والمنسوخ معتبرًا أنها تتضارب مع القرآن، وأعتبر أن أقول النبي ليست وحيا ولا كل الصحابة عدول، كما ناقش وضعية المرأة في الإسلام واعتبرا أن التراث نال من وضعية المرأة وكرمتها الإنسانية.
كما اعتبر المؤلف أن هناك اختلافات بين روايات البخاري ومسلم في الاحاديث النبوية، وناقش ما اعتبره تناقضات بين هذه الأحاديث وبين القرآن، بل وذهب إلى أن هناك أحاديث تؤدي إلى فساد العقيدةـ على حد وصفه ـ وأن المفاهيم السائدة عن الحدود باعتبارها عقوبات مفاهيم خاطئة بل وذهب إلى أن أحاديث قتل المرتد بها مغالطات مع صحح القرآن الكريم، وأنه يجب توضيح موقف الإسلام من الآخر مما تعد هذه القضايا شائكة وتخص صميم العقيدة والفكر الإسلامي.
ويعتبر الباحث انه عندما يناقض هذه الجدليات القائمة يساعد العقل الإسلامي علي تحرير النص من العدوان الخارجي للإسرائيليات وأيضًا التخلص من المفاهيم المغلوطة لدى بعض علماء المسلمين التي تؤدي إلي العنف، ومن ثم الإرهاب بعد ذلك، فعمل على إبراز جوهر النص المقدس وإعمال العقل فيه، ومن ثم تسقط حينئذ دعوات التصادم المزعوم بين العقل والشرع، وبالتالي بين الفلسفة والشرع، وذلك لأن القرآن من حيث هو الكتاب الإلهي المقدس،عقل، وهذا يعني أنه حق، ولما كان العقل من حيث هو يبحث عن الحق، وهذا يعني بالحتمية استحالة أن يتعارض الحق مع الحق، وبالتالي استحالة التعارض بين العقل "الفلسفة " والشرع.
ويدفع المؤلف إلى ضرورة الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية من حيث هي ديناميكية في فعلها وعملها هي قابلة للتواجد في ظل أي زمان ومكان وشخوص، وبالتالي فإن الوصول لتلك النتيجة يستلزم أن يتم النظر والتأمل العقلي في نصوصها وأحكامها، وهذه هي المعجزة الحقيقية للقرآن والتي تتمثل في تفاعل وانفعال الذات البشرية مع زمانها ومكانها، وفي إطار النسق الثقافي الاجتماعي، ومن ثم تتبدل المنظومة المعرفية، وبالتالي تتطور المنظومة القيمية السائدة في المجتمع، وهكذا يصل المجتمع إلى مرحلة الجدارة، وذلك تأكيدًا لمبدأ الاستحلاف الإنساني في الأرض على حد وصف المؤلف في كتابه.
ويري ساهر في كتابه أن كل خطوه ناقشها جاءت على خلفية الأدلة الشرعية سواء من خلال النص القرآني لكونه هو المقدس الوحيد للمسلم وكذلك الأدلة العقلية، لأنها كما أوضح لا تعارض بين الشرع والعقل في الإسلام، ومن ثم فإن النتائج التي توصل إليها إن هي إلا النتاج الطبيعي لتتبع خطوات القرآن دون تكبيله بما ليس فيه ودون الانحراف بمقاصده وأهدافه.
وقد أشار مؤلف الكتاب في مقدمته إلي أنه تأثر بشخصيات فكرية مثل محمد أركون، ومحمد الجابري، ومالك بن نبي، وعبدالجواد ياسين، والقمودي، وجمال البنا، وحسن حنفي،ومحمد شحرور، وأبو يعرب، أبو ريده، وغيرهم كثيرون ويدين لهم بالفضل فيما توصل إليه من اراء.
كما أثنى في نفس الوقت علي الشيخ حسنين مخلوف شيخ الأزهر السابق وكتاباته وفتاواه، نقل من بعض مؤلفات الشيخ محمد الغزالي، ود محمد عمارة، ونجد منقولات لشيخ محمد عبده رئد فكر الاستنارة في العصر الحديث في مؤلفه.
وفي مدخل رومانسي للكتاب أهدي الباحث والمفكر ساهر رافع الكتاب إلي حبيبته فقال " إليك حبيبة عمري، تشجعي ولا تخافي، إن زال الخوف لن نبالي، سنقهر الظلام ونزرع النور علي جبين الليالي، وننسج الحب ثوبا مرصعا بالنجوم " وهو استعداد مبكر لمعارك الزمان والمكان القادمة.
الكتاب كما اشار مؤلفة في مقدمته يهدف إلى فك الإلتباسات في الذهنية المسلمة بين العقل والنقل والخصومةَ المصطنعة بين الاثنين، ويدعوا أن يتحرَّر الإنسان المسلم من أزمة الصِّدام بين الدين والعلم؛ لأن الإسلام لم يكن يوما ما حاجزًا بين فهم الدين وتحرير العقل لفهم الدين، الكتاب به كثير من القضايا الشائكة التي تحتاج إلي مناقشة جادة من المتخصصين في مفاهيم الخطاب الديني وأبعاده الفكرية والفلسفية.