الرسالة الأزهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية(3/6)
الرسالة الثالثة
كهف العزلة الشعورية
الجماعة مازالت تري ..
لا نجاة للعصبة المؤمنة على الأرض إلا بأن تنفصل عقيديًا وشعوريًا عن أهل الجاهلية
مساجد ضرار لا تختلف عن معابد الجاهلية ومؤسستها
جسم الجماعة الصلب المتجمد لا يتمتع بأي قدر من المرونة
تتناول الدراسة التي
تعرضها "أمان" خطاب جماعة الإخوان الإرهابية أقدم الجماعات الإسلامية بعد أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية ، تلك الجماعة التي انشقّ عنها أكثر التيارات
وأغلب الجماعات الإرهابية المعاصرة .
واختارت الدراسة هذه الإشكالية في معالجتها لقضايا التطرف؛ لأن خطاب جماعة الإخوان المسلمين أحد أهم المؤثرات في الخطاب الإسلامي المعاصر، وأهم الروافد الخفية المغذية للتطرف في عالمنا؛ لذا يرصد الباحث عبد الباسط هيكل ، من خلال اتباع منهج تحليل خطاب المؤسس حسن البنا، وبعض كتابات منظري الجماعة، الجوانب المضمرة في خطاب الإخوان المسلمين وفي الرسالة الثانية الحالة الإنعزالية عند الإخوان بشكل تفصيلي :
ويسأل البنا في رسالته إلى الأخ المقبل على البيعة "هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة - في غير معصية طبعا - قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا التردد ولا الانتقاص، ولا التحوير؟ هل هو مستعد لأن يفرض في نفسه الخطأ، وفى القيادة الصواب إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتماعية التي لم يرد فيها نص شرعي؟ هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة (الجماعة)؟ وهل تملك القيادة في نظره الحق في الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة (الجماعة)."
وتتشكل ثقافة أبناء الجماعة من مصادر المعرفة المعتمدة عندها،
فيشترط البنا لتوثيق الأخ العامل "أن يُكثر المطالعة في رسائل الإخوان
المسلمين، وجرائدهم ومجلاتهم.. أن يتخلى عن صلته بأي هيئة أو جماعة لا يكون
الاتصال بها في مصلحة الدعوة، وبخاصة إذا أمرت بذلك... أن تقاطع كل محكمة
غير إسلامية، فلا تذهب إليها إلا مضطرا، والأندية والصحف والجماعات
والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة.. أن تعرف أعضاء
وحدتك فردا فردا معرفة جيدة وتعرفهم بنفسك معرفة تامة، وتؤدي حقوق أخوتهم
كاملة.. أن تحافظ على الأوراد الإخوانية وألا تقصر في أدائها إلا لضرورة
قاهرة.".
فالجماعة تختار مصادر الأخ المعرفية، وتحدد إخوانه، فتشبع عاطفته، وتشكل عقله، فيعيش الإخوان بين الناس إلا أنهم في انعزال فكري وشعوري يحميهم من عدوى التخلي عن الإسلام في فهمه الشامل الصحيح الغير سائد في المجتمع، معتقدين أنهم العقلاء في عالم الجنون، الأصحاء في دنيا المرض..
ويصبح الانعزال ضرورة عند سيد قطب لبقاء الجماعة المسلمة التي تهيئ نفسها بذاك الانفصال عن المجتمع لإقامة دار الإسلام فيقول: "أنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقيديًا وشعوريًا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورًا كاملًا بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية".
ولا يستثنى من الانعزال
المسجد، فمساجد المسلمين صارت مساجد ضرار لا تختلف عن معابد الجاهلية،
فيقول: "يرشدنا الله إلىاعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة
مساجد تحسّ فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها
على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعٍا من التنظيم في جو العبادة
الطهور... اعتزال الجاهلية نتنها وفسادها وشرها ما أمكن في ذلك، وتجمع
العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها
وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها."
تلك الحالة من الانعزال والمركزية تصنع نوعا من الجمود والتصلب يؤدي بدوره إلى انشقاقات وانشطارات متعاقبة على الجماعة منذ تأسيسها وحتى عصرنا، فجسم الجماعة الصلب المتجمد لا يتمتع بأي قدر من مرونة تعاطى الأفكار أو مدارسة فكر المختلف ليس من خارج الجماعة بل من داخلها، فمن يملك فكرا مختلفا عليه أن يرحل مع فكره، معلنة عبارتها الشهيرة التي يرددها أبناء الصف الإخواني "الدعوة تنفى خبثها" وحقيقتها "التنظيم ينفي خبثه" وكأنها النار التي تُجلى الصدأ عن الحديد، فأي محاولة للتفكير هي شهوة تتجه بصاحبها بعيدا عن الحق الذى استقرت عليه الجماعة، فالعقل الشجرة المُحرَّمة في جنة الجماعة، وإذا كانت الجماعة ممثلة الحق، فكل من يخالفها ممثل الباطل الذى يجب أن يقف بعيدا عن الحق في مربع العداوة، فالأمور بين البياض والسواد بلا ألوان أخرى، فلا مجال لتعددية قيمية في فكر الجماعات، وهذا يفسر الحالة الانشطارية للجماعات الإسلامية قديما وحديثا، وتعدد أسمائها.
وإن احتفظت جماعة مثل الإخوان المسلمين رغم تلك الانقسامات بكونها الأكثر حشدا، وأتباعها الأضخم عددا إلا أنه تضخم المرض، فتضخم جسد الجماعات ليس نموا صحيا بل سمنة ركود تذوب متى رفعت الجماعات عن رأسها قبعة شعارات الإسلامية والحاكمية ذاك الصراخ الذي يحتشد حوله المتعاطفون؛ فمتى توقفت الجماعة عن تقديم نفسها كمرادف للدعوة الإسلامية - كما نرى في نصوص مؤسسها - ستصبح تنظيمًا بأفكار بشرية يقدم فهمه للإسلام، وليس هو الإسلام، وساعتها يُختبر حجمها الحقيقي.
قد يحاول البعض من داخل الجماعة إسماع هذا الجسد المنعزل عن الأصوات الخارجية صوت النقد والمناقشة والمراجعة والتقييم إلا أن الجماعة تسارع برأب الصدع، ونفي الخبث المنشق في عمليات تطهير متعاقبة، فالجماعة لا تميز بين النقد بالدال، والنقض بالضاد، فأي محاولة نقدية داخل فكر الجماعة هي محاولة انشقاقية؛ فالجماعة تحدد بدقة المُدخَلات المعرفية لعقول أتباعها الذين يتم تربيتهم تنظيميا وليس إسلاميا، فمصطلح التربية الشائع في لغة الجماعة ينصرف - في حقيقته - إلى التربية التنظيمية بتعميق الانتماء أكثر منه تربية روحية، فالغاية التربوية المنشودة في الأخ هي الالتزام بواجبات الجماعة، ولائحتها الداخلية، وليس القانون العام وواجبات وطنٍ انفصل عنه، وهو مازال يعيش فيه، فتركز جماعة الإخوان المسلمين على رسائل البنا وتفسير الظلال وبعض كتابات أبناء الصحوة الإسلامية مما راجعته الجماعة؛ لتجمع أبناءها على معينٍ فكريّ صافٍ لم يتلوث بأفكار دخيلة عليه قد تصيبه بعدوى التفكير والتساؤل.
وإمعان الجماعة في تعميق مركزيتها للحق واحتكارها للفهم الصحيح الشمولي للإسلام أوصل أتباعها إلى حافة هوة التكفير، فأمسك البعض نفسه عن السقوط مكتفيًا بوصف المجتمع بأوصاف الغفلة والفسق والضلالة.. وسقط من سقط واصفًا المجتمع بالجاهلية والكفر.
فالجماعات الإسلامية تشترك في خطاب تمييز ديني يستتر خلفه التكفير حينًا ويظهر حينًا آخر تبعا للمناخ العام، فتنشط جينات التكفير في جسد الجماعات في أوقات المواجهة وأزمنة الصراع، فحين تُطلق الجماعات النفير العام لمواجهة خصومها الذين تراهم أعداء الإسلام، يكون التكفير إحدى أدوات المعركة، وإن تغيرت أسماء الجماعات قديما وحديثا إلا أنه ظل التكفير أصل الداء، وكما تُكفِّر بعض الجماعات بذنب أحدثته تكفرك جُلّ الجماعات برأي اجتهدت فيه ما دام خالفهم، فهم الصواب والحق والدعوة والإسلام، كل هذه المفردات صارت لها دلالة واحدة تجسدت فيهم، وأصبح الخطأ والباطل والكفر في مخالفيهم.
وفي الوقت الذى كافئ الله المجتهد أصاب أم أخطأ تأكيدا على قيمة إعمال العقل في المسكوت عنه أو ما يحتمل أكثر من دلالة من النصوص، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "من اجتهد فأصاب له أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر" عاقبت جماعات التشدد المجتهد فكفرت قديما عليا وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو -رضى الله عنهم- وفسّقت جماعات الإسلام السياسي مخالفيها حديثا، ولم تميز عقولهم كون الاختلافحول مسألة طارئة ليست من العقيدة، وأنه محض اجتهاد في الرأي في أمر عملي يتعلق بالسياسة، غير أن أفكارهم كحمم البركان في تدافعه، سرعان ما تنتقل من سيء إلى أسوء، فتحوّل الاختلاف في الاجتهادوالرأي عند بعض الجماعات إلى اختلاف في الدين، فإذا به كفر يستوجب الاستتابة، ثم حرب وقتال ودم، وهذا الجهاد ذروة سنام الإسلام في فهمهم، فالجهاد عندهم هو حرب مخالفيهم في الرأي، فخطابهم يختلط فيه الاجتهاد الظني بمقطوع الإسلام الثابت يقينا، فتحوّل رأيهم إلى مُسلَّمة مقدسة يجب قبولها، وأصبحت قضيتهم عقائدية، وإن كان الله لم يكفر مجتهدا بخطأ إلا أن هذا لم يكن كافيًا ليُعف الصحابة من التكفير قديمًا، ولا مخالفي الجماعات حديثا.
وفي هذا السياق يستدعى "الولاء والبراء" فكفّرت الجماعات قديما من لم يعلن براءته من عثمان وعلي ومن تبعهم من الصحابة لأنه صار شريكا لهما فيما رأوه ظلما، أصبحوا به خارجين عن الإسلام، فلا يصحّ إسلام العبد حتى يكون تبعا لأفكارهم، ولا يكتمل إيمانه إلا بالعمل بين صفوفهم، ولا يتحقق ذلك إلا أن تعلن بداية البراءة من هؤلاء الصحابة الكرام، وحكّام بني أمية، وأصبح كل كلام دون الحديث عن البراءة لغوًا لا يقفون عنده، ولا يهتمون به، لسان حالهم حدثني أولا في البراءة من فعل الظالمين وإلا أنت شريك لهم في ظلمهم، فأخرجوا عمر بن عبد العزيز من جماعة المسلمين المتمثلة فيهم؛ وحكموا بكفره؛ لأنه لم يتبرأ من فعل الأمويين، رغم إقرار عمر بن عبد العزيز بأن أهله من الأمويين ممن ظلموا، وعمل على ردّ المظالم إلى أهلها، إلا أنه لم ينطق بكلمة البراءة.
«ست رسائل أزهرية» تفكك خطاب الجماعة الإرهابية
الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (1/6)
يتبع