«الصواعق الإلهية فى الرد على الوهابية» (الحلقة الأخيرة)
نواصل ردود الشيخ سليمان بن عبدالوهاب القاضى، والفقيه الحنبلى، على أخيه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأتباعه، فى كتابه "الصواعق الإلهية فى الرد على الوهابية"، فهو يعرض الأخطاء ثم يفندها، ويعتمد فى تفنيدها، على رأى ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وفى كل مرة يتحداهم أن يأتوا بأقوال أهل العلم التى تثبت منهجهم، أو تقوم بها حجتهم.
ابن تيمية لم يكفر مَن سأل غير الله
يقول الشيخ سليمان بن عبدالوهاب عن أخيه محمد بن الوهاب، وجماعته إن بعض بلائهم يأتى من عدم فهم كلام أهل العلم وذلك لسببين:
الأول: أنهم يتركون كلامهم الواضح، ويذهبون لكلامهم المجمل، ثم يستنبطون منه حسب فهمهم، ثم ينسبونه لهم فيقولون قال ابن تيمية، وما قال وإنما فهمهم المغلوط لابن تيمية، ويضرب مثالًا على ذلك فيقول: إن ابن تيمية فصل فى حكم من سأل غير الله فقال: من سأل غير الله شيئًا مما لا يجوز فيه سؤال غيره مثل غفران الذنوب، وإدخال الجنة، أو النجاة من النار، أو إنزال المطر، وإنبات الشجر فهذا شرك يُستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قُتل بعد أن تُقام عليه الحجة التى يكفر تاركها.
فإن (قلتم) إنه ذُكر عنه فى الإقناع أنه قال: مَن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعًا" قلنا: هذا ما مثلنا له بعدم فهمكم إذ العبارة تقول: "يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم بواو العطف التى قرنت بين الدعاء والتوكل، والدعاء فى لغة العرب هو: مطلق العبادة، والتوكل عمل القلب، والسؤال هو الطلب، وهو الذي تسمونه الآن دعاءً، وهو فى العبارة لم يقل، أو يسألهم، بل جمع بين الدعاء، وهو مطلق العبادة، والتوكل الذى هو عمل القلب، والسؤال وهذا هو مراده من الكفر، وشروط من يكفر بهذه الأشياء، ومما يدل على عدم صوابكم فى تكفير من سأل غائبًا، أو ميتًا قول النبى في الحديث الصحيح: «إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد يا عباد الله يا عباد الله احبسوا يا عباد الله، وفى رواية إن أراد عونًا فليقل يا عباد الله أعينونى».
التبرك والطواف والتمسح بالقبور
يقرر الشيخ هنا من جديد أن التبرك، والنذر، والطواف، والتمسح بالقبور لم يأت عن أحد من أهل العلم أن واحدة منها كفر، أو فاعلها مرتد كما يعتقد محمد بن عبدالوهاب، وأصحابه، بل إن بعضهم عدها فى المكروهات فقط، ومن شدد منهم عدها فى المحرمات، وأهل العلم جعلوها من مسائل الفروع، والفقه، وليس كما تلبسون أنتم على الناس فتجعلونها فى أبواب العقائد فقد ذكروها تحت فصل الدفن، وزيارة الميت من أين جئتم أنتم بقولكم أنها من العقائد؟
ارجعوا لكتاب «الإقناع» وهو يحكي مذهب الإمام أحمد في ذلك قال صاحب الإقناع: «ويكره المبيت عند القبر وتجصيصه، وتزويقه، وتخليقه، وتقبيله، والطواف به، وتبخيره، وكتابة الرقاع إليه، ودسها فى الأنقاب، والاستشفاء بالتربة من الأسقام لأن ذلك كله من البدع».
العذر بالجهل أصل من أصول أهل السنة
ثم يفترض الشيخ جدلًا كون هذه الأشياء شركًا وكفرًا، فهنا يكون فات هؤلاء أصل آخر مجمع عليه من أصول أهل السنة، ومنهم ابن تيمية، وابن القيم وهو: أن الجاهل، والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من العمل ما هو كفر، أو شرك فإنه يُعذر بالجهل، والخطأ حتى تقوم عليه الحجة، ولم يخالف فى ذلك إلا أهل البدع فكما لا يدخل المرء الإسلام إلا إذا رضى به، واختاره فكذلك لا يكفر المرء إلا إذا رضى بالكفر، واختاره والاختيار لا يأتى إلا بالعلم.
كفر مع الإسلام
ثم يأتى أصل آخر وهو: أن المسلم قد يجتمع فيه المادتان الكفر والإسلام، والكفر والنفاق، والشرك، والإيمان، ومع اجتماع المادتين فلا يُكفر كفرًا يخرج من الملة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ولم يخالف فيه إلا أهل البدع أيضًا.
الحكم بالردة ومشكلة قتال مانعي الزكاة
يستدلون على قتال أهل القبلة وسبى نسائهم واغتنام أموالهم بقتال أبى بكر رضى الله عنه فيما اُطلق عليه قتال، أو حروب الردة، والحق أن من قاتلهم أبوبكر كانوا أصنافًا متعددة غير متساوية كالآتى:
1- صنف ارتدوا عن الإسلام، ونبذوا الملة، وعادوا للكفر الذى كانوا عليه.
2- صنف ارتدوا عن الإسلام، واتبعوا مسيلمة الكذاب، أو الأسود العنسي، أو طلحة الأسدى، أو سجاح.
3- صنف آخر فرقوا بين الصلاة، والزكاة، وهؤلاء كان قتال أبى بكر لهم قتال بغى ودخلوا فى غمار أهل الردة لغلبة أهل الردة وليس لكونهم مرتدين غير مسلمين، وقد اختلف الصحابة فى سبى أهل الردة، ولم ينقض عصرهم حتى أجمعوا على عدم سبيهم.
وقفة مهمة
ربما يكون مناسبًا أن نضيف هنا أن قتال أبى بكر لهؤلاء جميعًا كان منطلقًا من كونه قائدًا يحافظ على دولته، ؛ إذ لم يكتف هؤلاء المرتدون بردتهم بل حرضوا ضد الدولة، وسعوا لفتنة المسلمين، وتحريضهم على الخروج من الدين ودولته، بل واجتمعوا لقتال المسلمين يريدون استئصالهم، ورأوا وفاة النبي فرصة للإجهاز على هؤلاء المسلمين هنا لم يجد أبو بكر -وهو يمثل رئيس الدولة- لم يجد بدًا من حماية دولته من هؤلاء الأعراب المجترئين الذين اجتمعوا لقتاله، وراحوا يؤلبون القبائل عليه، وكان لابد أن يردعهم بحرب استباقية تمنع شرهم، وتقمعه، وتحمى دولته، وتظهر هيبته، وكان من ضمن هؤلاء مانعو الزكاة، وقاتلهم لذات السبب لحفظ هيبة الدولة، ومنع تفتتها، وزرع هيبتها، ولذا اعترض عمر بن الخطاب وقال كيف تُقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقال أبوبكر: والله لو منعونوا عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه فهل منع العقال كفر أوشيء يوجب القتال لكنه رأى أن الناس تجرأوا على الدولة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهنا يعيد الاعتبار للدولة، وكان مجتهدًا ليس معه من الله وحى وليس حكمًا عقائديًا واضحًا وإلا لما اعترض "عمر" عليه فعنفه أبوبكر تعنيفًا فيه تحفيز على موافقته فقال له: إجبار فى الجاهلية خوار في الإسلام؟ فلما اطمأن عمر لاجتهاد أبى بكر وافقه، فهذا اجتهاد لواقع معين.
تكفير الطائفة وبراءة ابن تيمية منه
ثم ينكر الشيخ سليمان ابن عبدالوهاب على من يكفرون طوائف المسلمين بجملتهم وأعيانهم مستدلًا بأن أصحاب رسول الله، وكبار التابعين، والأئمة من بعدهم لم يكفروا القدرية الذين قالوا: إن الله لا يقدر رأسًا فلا يهدي ضالا، ولا يرد عاصيًا فهو - تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا- لا يقدر على شىء، ولم يكفروا القدرية أيضًا الذين قالوا: إن الله جبر الخلق على الكفر، أو الإيمان، وخلقهم على ذلك كما خلق أبيضهم، وأسودهم، فكما لا حيلة لنا فى البياض، والسواد فكذلك لا حلية لنا فى إيمان، ولا كفر، وقد خرج هؤلاء بهذه الضلالات، والكفر العظيم فى زمن الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وكبار التابعين فبينوا ضلالهم، وتبرأوا منهم، وصاحوا بهم من كل فج عميق، ومع ذلك لم يكفرهم لا الصحابة، ولا التابعين، ولا من بعدهم ممن أتى من أئمة الإسلام، ولا أوجبوا قتلهم، ولا أجروا عليهم أحكام أهل الردة، ولا قالوا كفرتم، حيث خالفتمونا لأننا أهل الحق، وقد قامت عليكم الحجة.
ولم يكفروا المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، ولا المرجئة الذين قالوا الإيمان قول بلا عمل، فمن أقر بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يصل لله ركعة، ولا صام لله يومًا، ولا زكى، ولا فعل من الخير شيئًا طول عمره بل عندهم إيمانه كإيمان جبريل، وميكائيل، والأنبياء جميعًا، ولم يكفروا الجهمية الذين قالوا ليس على العرش إله يعبد، وليس له فى الأرض كلام، ولا عرج بمحمد، ومع هذا الكفر لم يكفروهم، ولم يجروا عليهم أحكام الردة، ومن قتل منهم غسلوه، ودفنوه مع المسلمين.
قال ابن تيمية: لم يكفر الأمام أحمد الخوارج، ولا المرجئة، ولا القدرية، بل صلى خلف الجهمية، وكان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم فى الصلاة، والحج، والغزو، والمنع من الخروج عليهم.
قال ابن تيمية: ومن أعظم البدع المنكرة تكفير الطائفة، وغيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم، وأمولهم، وهذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة المكفرة قد يكون فيها من البدع ما هو أعظم ممن تكفرها، وقد تكون فى بدعتها مساوية. أو أقل، والتكفير هو حال عامة أهل البدع إذ يكفر بعضهم بعضا.
الثانى: إنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة، والأخرى بالسنة لم يكن لهذه السنية أن تكفر كلًا من قال قولًا أخطأ فيه "ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت به قلوبكم".
والتكفير لا يكون إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها.