عيد رحيل يكتب: أنا ابن أمّى
لا يحتجن للكتابة عنهن.. أنا من أحتاج
لم يطلبن ردًا لكل ما فعلنه.. بل أنا أحاول
لا يردن اعترافًا بفضلهن.. أنا من قرر الاعتراف
يعتبرن ما فعلنه عاديًا وطبيعيًا.. وأراه إعجازيًا وخارقًا
هؤلاء النسوة أمهاتى
أنا ابن أمى
1- نجاة
كنت طفلًا هادئًا خجولًا مهتمًا بدراستى.. وكان ابن عمى الأكبر الذى لم يكمل تعليمه لا يعجبه هدوئى معللًا ذلك بأنى «تربية مرة».
الحكاية معتادة فى الريف المصرى فى فترتى الثمانينيات والتسيعنيات.. زوج يسافر للخليج سعيًا للرزق تاركًا مسئولية بناء الأسرة للأم، لكن قصتى مع أمى أزعم أن بها الكثير من الخصوصية.
هى فلاحة لا تقرأ ولا تكتب، وأنا ابنها البكرى و«راجل البيت» فى ظل سفر الأب.. قبل شروق الشمس تكون هى أول المستيقظين- وهى عادة لا زلت حريصًا عليها حتى الآن- الكل حول «الطبلية» للإفطار ولا استثناءات، توزع المهام والأعمال وتنجز هى الجزء الأكبر منها، بعد أذان المغرب الجميع يتناول عشاءه ويُغلَق الباب، ثم لا سهر بعد صلاة العشاء.
لو أردت صورة بصرية، فأمى هى الحاجة «فاطمة تعلبة» فى مسلسل «الوتد»، لكن ما لن يراه أحد هو الرابط بينى وبينها، فى صباحات شتوية قارسة، وباكرًا جدًا، كنا نخرج للسوق نبيع محصول الطماطم، كنتُ عينيها على متابعة الأعمال التى يقوم بها أغراب فى أرضنا، كنت أمام إخوتى والناس «راجل كبير»، وبينى وبينها «ابنها العيل»، كنت سرها على صغرى، منذ دخولى المدرسة وحتى شهادة الثانوية العامة كانت هى من تعرف النتيجة، بالمناسبة المدرسة كانت فى قرية أخرى، لكنها دائمًا كانت أول من يصل، ودائمًا كانت أكثر الناس فرحًا، كان يحز فى نفسها أنها لا تستطيع تكرار الأمر فى نتيجة الجامعة، كنت أشعر أن جزءًا من فرحتها منقوص.
أمى هى الحكمة والقرار الصائب، الحازمة التى تقدر الظروف، العصبية التى تفضحها ضحكتها، الكريمة رغم ضيق اليد، المسئولة حتى وإن فرض الزمن أحكامه ببعض المتاعب.. أمى صنعت رجالًا.
2- حمدية
فى شارع سعد زغلول فى وسط البلد صرحت بحبى لسميرة، رفيقة سنوات الدراسة، واتفقنا أن نقتسم العمر المقبل، وطلبت منها تحديد لقاء أُسرى، وهناك التقيت أمى الثانية.
ورغم أن المثل الشائع يقول إن «الحماة دائمًا تحب زوج بنتها ولا تحب زوجة ابنها»، فإنى اعترف بأن من لحظة دخولى المنزل وهذه السيدة تعاملنى كأكبر أولادها.
لم أعد ذلك الشخص الذى تزوج ابنتهم، دخلت فى نسيج العائلة أسرع مما اعتقدت، والسبب هى. كانت ولا زالت عمود العائلة، ماما هى الكلمة الأكثر ترديدًا فى البيت متبوعة بطلب ما، وكالعادة يجاب.
سميرة عادة ما تطلب من ابنتنا أن تساعدها فى أعمال المنزل، معللة ذلك بأنها «كبرت»، ناسية أن أمها لم تكن تسمح لها بأن «تغسل كوباية»، قررت أن تكون فداءً للجميع.. الكل فى راحة وهى دائمًا مصباح علاء الدين لتحقيق الأمنيات.
أما أنا فمنذ اللقاء الأول أشعر بحب هذه السيدة، بدءًا من خوفها علىّ وعلى «فلوسى» وانتهاءً بـ«حلة المحشى والملوخية». كان ابنها يقول: «ليه يامة الأكل بيطلع حلو لما عيد بيبقى هنا؟»، لا أذكر مرة حدثتها إلا وكانت النهاية ضحكة ملء الفم.
لين كلامها، وصدق دعواتها، مودتها لأمى، ووقوفها فى صفى فى أى موقف بينى وبين زوجتى، حبها لأولادى بشكل يفوق الطبيعى، هذه سيدة يصعب أن تجود الأيام بمثلها.
3- مدام عيشة
أكتوبر 2003.. السنة الثالثة فى كلية الإعلام، قسم الصحافة، وعندما نذكر قسم الصحافة تجدها أمامك فى كل ما سيأتى لاحقًا.
مدام عائشة.. سكرتيرة قسم الصحافة وقلبه النابض، منذ أن دخلت القسم طالبًا، وها أنا اليوم محاضرًا به وحاملًا درجة دكتوراه منه وأنا أراها كما هى، أمًا للجميع.. هى لا تنظم أمور القسم، هى تدير أسرة، من أول ترتيب الجمعيات «عشان انتوا بتحتاجوا فلوس كتير عشان الدراسة والجواز والذى منه»، وحتى «يلا اشتغل فى الرسالة عشان اتأخرت».. مُحبة للجميع، صبورة لأعلى درجة، تخيل أنها تستمع لعشرات الطلاب يوميًا وبلا انقطاع وبلا ضجر، يعنى «ماما.. ماما.. ماما» فى البيت، و«مدام عيشة- مدام عيشة- مدام عيشة» فى الكلية.
علاقتى بها تتلخص فى شعور كل مغترب «زى حالاتى» بالفقد والوحدة والغربة حال بُعده عن أمه، ثم يعوضك الله بها، تسمع صوتها أن «متخافش يابنى»، هى تعرف أنك تفتقد كل ما تفعله أمك من أجلك، وتحاول هى أن تعطيه لك.
مدام عيشة.. كلنا مدينون لك.
4- ماما هانم
لو أردت أن ترى مثالًا للتضحية والإيثار فانظر إلى تلك السيدة، أراد الله أن تكون مسئولة عن الأسرة بعد رحيل الزوج مبكرًا، لم تتفكك العائلة، بل صنعت هى عائلات، بنتًا وولدين، كل منهم أصبح ذا شأن وذا عائلة.. وعندما اطمأنت على الجميع رحلت.. وكأنها تقول استمتعوا بحياتكم، لا أريد أن أكون عبئًا.
أعترف بأننى كنت مقصرًا معها، منذ أن التقيتها فى زفاف ابنتها الكبرى، زميلة دراستى، وهى لا تغفل عن السؤال عنى، ولا تكل من «توصيل السلام»، كانت حاضرة لكل أحداث حياتى المهمة، فى زفافى، وفى مناقشتى للماجستير، وفى فرحتى بصغارى، كانت دعواتها تصلنى، وفرحتها بنجاحى تزيدنى فرحًا، وجملتها الدائمة «والله ده انت واحشنى خالص» لا يزال صداها ينبهنى بأنها «وحشتنى خالص خالص خالص»..
ربنا يرحمك يا ماما هنومة.