«جيران»: «ألف ليلة وليلة» نص لامس سر الوجود الإنساني بانفتاحه على الزمان
يأتي "ألف ليلة وليلة" النص الجامع والأبرز في السردية العربية ليجمع بين الأكثر مبيعا والخلود، وكان السؤال الذي توجهنا به لكتاب ومثقفين ماذا عن سر خلود ألف ليلة وليلة وذيوعها وانتشارها وترجمتها إلى العديد من لغات العالم؟.
قال الروائي والناقد الأكاديمي الدكتور عبد الرحيم جيران لـ"الدستور": "لا يكتسب أيّ عمل فنّيّ صفة الخلود ومقاومة الزمان إلّا إذا استطاع أن يُلامس سرّ الوجود الإنسانيّ والمحيّر فيه، وأن يكّون مفتوحًا على الزمان، وقابلًا للحياة بوساطة قوّة احتمالات الأسئلة التي تتخفّى وراء إنتاجه، و"الليالي" نصّ تتوافر فيه كلّ هذه المميّزات إلى جانب خصوصيته في التخييل، والإشكالات التي يثيرها باستمرار؛ ولهذا لم يكفّ عن جلب أنظار القرّاء والباحثين في مختلف بقاع المعمور، وينبغي لنا عندما نتحدّث عن خلود "الليالي"- إلى جانب المميّزات المذكورة آنفّا- أن نميّز بين ثلاثة محافل رئيسة اهتمّت بها أشدّ الاهتمام، وساهمت في بقائها حيّة، وهي: محفل الاستماع والقراءة، ومحفل الإبداع، ومحفل البحث الأكاديميّ.
ويشير جيران إلى أن "لا تتوجّه الليالي إلى جمهور قرائيّ بعينه، بل إلى كلّ الفئات الاجتماعيّة وكلّ الأعمار، كما أنّها تقبل أن تكُون- في الآن نفسه- كتابًا مقروءًا، بما يعنيه هذا من عزلة وتأمّل شخصيّين، وأن تكُون مرويّة في المجالس والحلقات الشعبيّة المقامة في ساحات الفرجة، بما يُفيده هذا من تجديد متواصل لها بفعل اختلاف الروّاة وألسنتهم، واختلاف سياقات روايتها وأزمنتها. ولعلّ طبيعتها هذه جعلت منها حاجة ذوقيّة بالنسبة إلى المتلقّين على اختلاف أصنافهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وحاجة ضروريّة تتنّصل بكسب المال، سواء أتعلق الأمر بالروّاة الشعبيّين أو المترجمين ودور النشر. ولعل إضافة حكايات غريبة عنها إليها، واصطناع مسودّات مزيفة (مسودّة بغداد ومسودّة تونس على سبيل التمثيل) دليلان على الحاجة إلى المال التي جعلت من الليالي نصًّا مطلوبًا.
ويلفت جيران إلى أنه "لم تظلّ "الليالي" حيّة وخالدة في ذاتها، من حيث هي نصّ مكتف بذاته فحسب، بل ظلّت كذلك لأنّها استطاعت أن تمدّ حياتها في نصوص حكائيّة غيرها، وبخاصّة في الحكي الغربيّ. وقد تمثّل هذا المظهر في جانبين مختلفين: جانب التقليد المتماهي المتمثّل في محاكاة حكاياتها من حيث المبنى وطابعها العجائبيّ، حتى إنّ بعض من قلّدها من كتّاب في الغرب حرص على أن يّعطي شخصياتِ حكاياته أسماءً عربيّة أو شرقيّة؛ وجانب التأثر بها المتمثل في استيحاء بعض من ملامحها في إنتاج القصّة القصيرة (بورخيس أشهر مثال) أو إنتاج الرواية، وقد كُتبت دراسات عديدة تُبيّن أوجه تأثيرها هذا في الأدب الغربيّ.
ويختم جيران: "وممّا لا ريب فيه أنّ اهتمام البحث الأكاديميّ بها كان سببًا من الأسباب القويّة التي جعلت "الليالي" نصًّا خالدًا، ولقد كان هذا الاهتمام نتاج شهرتها بفعل حيوية المحافل المذكورة آنفًا واحتفائها بها، ونتاج ما حفّ منها إشكالات لها من الإغراء ما جعل النظر البحثيّ يسلط عليها الضوء. ونكتفي- هنا- بالإشارة إلى ثلاثة جوانب من هذه الإشكالات: أ-جانب التصنيف الناجم عن كون "الليالي" ليست نصًّا نمطيًّا، بل نصًّا له خاصّياته المميّزة المختلفة التي تُربك آليات التصنيف الحكائي المعروف، فلا هي تنتمي إلى الأدب المكتوب المتعارف عليه، ولا إلى التخييل الشعبيّ، بل تقع في المسافة بينهما؛ ب- جانب التكوّن الماثل في كونها نصًّا لم يتكوّن دفعة واحدة، بل في مراحل مختلفة من الزمان، بما يّفيد هذا من إشكالات تتّصل بأصله؛ ج- الجانب الجماليّ الذي انصرف فيه البحث إلى فهم الأسس الجماليّة التي تنهض "الليالي" عليها ووظائفها، وفهم ما يتخفّى وراء تخيلها من دواع اجتماعيّة أو سيكولوجيّة أو فكريّة.