رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سمير غانم.. إذا أحب الله عبدًا

إن لله عبادًا اختصهم بأسرار المحبة والقبول، تنفتح لهم القلوب بلا مقدمات، ولا تحفظات، ولا تعرف إلا أن تحبهم، هكذا دون قيد أو شرط.. من بين هؤلاء كان سمير غانم، صانع البهجة، والمحبة الخالصة، ملك الارتجال والخروج على النص بلا منازع، حتى إننى أظن أنه لم يمر عليه يوم دون ضحكة أو ابتسامة، ودون أن يكون سببًا فى سعادة أحدهم. فقد كان مجرد ظهوره يكفى لكى يبدأ الضحك، فى الحياة العادية، على خشبة المسرح، فى السينما، فى برنامج تليفزيونى، فى إعلان، هو أسطورة «الولا حاجة»، أو بعبارته هو «خبير المسخرة والهلس»، القادر على تفجير الكوميديا من اللاشىء.

وبعيدًا عن تنظيرات النقاد، أو المتخصصين، وبعيدًا عن تقسيمات مدارس الكوميديا، وفصولها، ونجومها، يمكنك بكل بساطة أن تقول إنه كان مدرسة بمفرده، يقدم عزفًا منفردًا لا ينافس فيه أحدًا، ولا ينافسه فيه أحد. فلم يلجأ إلى الكوميديا السياسية عندما كان الجميع يقدمونها، وعندما جربها فى مرة واحدة وحيدة، فى مسرحية «جحا يحكم المدينة»، لم يستطع أن يلتزم فيها بالنص المكتوب، وحولها إلى «مسخرة» من الارتجال والعبث، أعلن بعدها توبته عن هذه النوعية من المسرحيات، وسخر نفسه وحياته لفن الضحك للضحك، لا لأى شىء آخر.

وإذا كانت غالبية نجوم الكوميديا سقطت فى فخ التلميحات أو العبارات الجنسية، باعتبارها الطريق الأسهل للضحك، إلا أن سمير غانم ربما كان هو الوحيد الذى لم تستهوه هذه اللعبة السهلة، ولم يلجأ إليها مطلقًا، حتى عندما ارتدى ملابس امرأة فى إحدى مسرحياته الشهيرة، رسم ملامحها بطريقته الكاريكاتورية «اللى تفطس من الضحك»، وتقبلها الجمهور «بشنب» لم يلتفت إليه أحد، ولم يتوقف عنده أو ينتقده أو يعترض عليه أحد، وكأن هناك عقدًا بينه وجمهوره يلزمه بقبول ما يقدمه له، بطريقته الخاصة، وإكسسواراته الغريبة، وقفشاته المباغتة، القادمة من اللاشىء.

أذكر أننى فى المرة الوحيدة التى التقيت فيها سمير غانم، واستمرت لأكثر من ساعتين، لم يكن هناك غير حضوره الاستثنائى، وخفة دمه، التى لا تحدها حدود، ولا يوقفها شىء، ولا حتى إرهاق أو مرض.

كان ذلك فى بدايات عام ٢٠٠٠، وكنا نعد لملف خاص عنه فى إحدى المجلات الفنية التى كنت أعمل بها وقتها، وأذكر جيدًا أننى منذ لحظة الدخول من باب المسرح كان يغمرنى إحساس بحالة من البهجة، والخفة، فقد كان الوجود فى مجال سمير غانم الحيوى يكفى وحده للإحساس بالسعادة والفرح، حتى إننى عندما بدأت تسجيل الحوار، ضغطت على زر التشغيل، لا التسجيل، وظللت طوال ساعة كاملة دون أن أنتبه للخطأ، فقد كان هو وحده مركز الانتباه، وبؤرته، لم أكتشف المأزق إلا بعد العودة إلى المكتب، ولم يكن أمامى من حل إلا البحث فى الذاكرة عن تفاصيل الحوار، وكتابته كاملًا من الذاكرة، على الفور، دون انتظار أو تأجيل، وربما كان ذلك هو السبب فى أنه كان أسرع حوار أجريته، وكتبته طوال مشوارى الصحفى.

يقولون إن لكل انسان من اسمه نصيبًا، وقد فاز سمير غانم بكل ما فى اسمه من أنصبة، فقد كان نِعم «السمير» لكل من صادفهم، وصادفوه فى حياته، ولا أظن أن هناك من «غنم» ما كان له من «مغانم»، حتى إننى عندما كنت أسمع عبارة «إذا أحب الله عبدًا حبب فيه خلقه»، أتبعها بأنه إذا أحب عبدًا رزقه «خلفة البنات»، ولا أظن أن أحدًا رزقه الله محبةً مثلما حدث ويحدث مع سمير غانم، الذى رزقه بابنتين من ألطف الكائنات، وحبًا لم يسبقه إجماع شبيه به.