«حوار بين جيلين» (3- 3)| دينا عبد السلام: الإسكندرية تسكن أعمالي
الإسكندرية تسكن أعمالي سواء رواية أو سينما
الجمهور لا تتاح له فرصة مشاهدة أفلام مختلفة
أفلامي ليست نخبوية
كتابة أفلامي تشبع بعض من حنيني لكتابة الرواية
في الحلقتين السابقتين تحدث الروائي إبراهيم عبد المجيد عبر حواره الى الروائية والمخرجة دينا عبد السلام عن رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة مغرما وشغوفا ومهموما بالكتابة والكثير مما أراده عبر الأدب، وكذلك عن الدوائر الثقافية والشللية المنشغلة باحتكار المشهد وكيف كان يواجه ذلك.
تواصل "الدستور" سلسلة حلقات حوار بين جيلين، وفي الحلقتين السابقتين، استضفنا الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد ليجيب عن أسئلة دينا عبد السلام ممثلة عن جيلها، وفي هذه الحلقة تجيب الروائية والمخرجة دينا عبد السلام عن أسئلة صاحب لا أحد ينام في الإسكندرية.
عبر روايتها الأولى "نص هجره أبطاله" عرف المشهد الثقافي في مصر الروائية السكندرية دينا عبد السلام. الرواية التي تشبه نصوص الأساطير الإغريقية في صورتها التراجيدية، رغم أن المأساة تبدو فيها نازعة إلى الرومانسية، احتفى بها النقاد والمشهد الثقافي ولاقت ذيوعا وانتشارا وترحيب من قبل كبار النقاد والكتاب في مصر والعالم العربي.
كان أول لقاء بك حين قرأت روايتك "نص هَجَرَهُ أبطاله" عام 2012 فيما أذكر. سألتك وقتها عن هذه النزعة السينمائية في الكتابة. فالنص الذي تركته الأم لابنتها مرّ على الممرضة التي كانت ترعاها وفي كثير من صفحاته حذف وخطوط مائلة وغير ذلك مما يشي بحالة كاتبته ويجسِّدها أمام القارئ ويثير أيضا الخيال. نص يعتمد على المشاهدة لا على الحكي فقط، وكان هذا سر إعجابي بالرواية فهو تجديد في الشكل الأدبي لم أره من قبل. لماذا لم تكتبي رواية أخرى بعد "نص هجره أبطاله" وقد مرت الآن عشر سنوات تقريبا؟
نعم، لم أكتب رواية أخرى منذ ذلك الحين، ولكن صدرت لي مجموعة قصصية بعنوان "إعادة تدوير" عام 2019. وفي خلال تلك المدة أيضا قمت بصناعة عدد من الأفلام الروائية والتسجيلية، "ألف رحمة ونور" روائي قصير عام 2014، "كان وأخواتها" تسجيلي قصير عام 2016، ثم "مستكة وريحان" روائي عام 2017، وحاليا أعكف على الانتهاء من فيلمي الروائي الجديد "وش القفص". يبدو أن السينما بتفاصيلها الكثيرة قد استهلكت الكثير من وقتي، ولكني أكتب أو أشارك في كتابة جميع أفلامي، وهو ما يشبع حبي للكتابة والتأليف، وأعتقد أنني سأعود للرواية في يوما من الأيام.
الأم التي تركت النص الذي هجرته بالموت كتبت عن الإسكندرية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات بإيجاز جميل نافذ. إسكندرية العالمية. أنتِ شاهدت الإسكندرية الضائعة التي استقرت على العشوائيات والأفكار الوهابية والسلفية المتشددة. فهل فكرتي في فيلم وثائقي بلا أبطال وحتى بلا حوار يقدم صورا وصحفا وشوارع قديمة في مقابلة مع ما جرى من خراب؟
قد يحدث ذلك يوما، فالإسكندرية تسكن إبداعي دائما، فيها جرت أحداث روايتي، وفيها صورت كل أفلامي. أحداث الرواية وقعت بين الماضي، كما ذكرت، والحاضر، لكن أفلامي تتناول الإسكندرية المعاصرة، بمنمنماتها.
بالطبع أشعر بأسف كبير لضياع الهوية البصرية والثقافية للمدينة، وأشعر بالحنين لزمن لم أعاصره، فقط رأيته في صور الأجداد والآباء، وسمعت عنه من خلالهم، أرى آثارها فيما تبقى من حدائق ومعمار. قد يكون استعادة أجواء ذلك العصر في فيلم أمر غير قابل للتنفيذ في سياق السينما المستقلة، ولكن قد يحدث ذلك من خلال استخدام الصور كما ذكرت.
في فيلم "كان وأخواتها"، والعنوان دال على الماضي، وربما كانت أغنية فاتن حمامة وشادية "آلو آلو إحنا هنا" التي تسأل فيها فاتن حمامة شادية "ها تعرفي كان وأخواتها؟ فترد شادية واعرف عماتها كمان وخالاتها"، جعل كان مرتبطة بالماضي، كما أن القليلين سينتبهون إلى أن كان وهي فعل ماضي، فحين نقول كان وأخواتها نكون مع الحاضر اللغوي ولا تكون مع "ماضي ما نسيبه في حاله" على رأي ليلي مراد. لقد تجلى في فيلمك الماضي في حضور سيدات متقدمات في العمر ذهبن إلى قرية الصيادين بالمكس أو فينسيا المكس للاجتماع والحكي والاحتفاء بالحياة لكن هل كان اختيارك للمكان محاولة للإمساك بشيء جميل من الماضي يتسع لروح بطلات الفيلم وهو قرية الصيادين؟
نعم، بكل تأكيد، فالمكان برغم بساطته وفقره وعشوائيه، إلا أن ساكنيه من الصيادين يتمتعون بروح قوية، قادرة على تحدى الصعاب بثقة وثبات وإقبال على الحياة، تماما مثل السيدات المسنات، فرغم ضعفهن وعجزهن، استطعن مقاومة الزمن وأمراض الشيخوخة بحبهم للحياة. ويرى البعض بأن الفيلم وثيقة سينمائية تؤرخ لمكان لم يعد موجودا، وهذا يسعدني كثيرا، فلقد تم إزالة منازل الصيادين تماما من تلك المنطقة، وتم نقلهم لمنطقة أخرى.
مستكة وريحان: أرملة في السبعين تقريبا ورجل يقترب من السبعين معا في مبني واحد مع الوحدة بعد أن تركهما الأبناء. الفيلم ليس روائيا قصيرا فهو يكاد يصل إلى الساعة في الوقت، فلماذا لم يحاول داعمو الفيلم أن يعرضوه في قاعات السينمات العادية أو اليوتيوب العام. أعرف أنك لن تستطيعي وحدك فعل هذا لأن الأمر في الإنتاج لمموليه. هل حاولتِ اقناعهم بذلك؟
كل من يشاهد الفيلم، يطلب مني عرضه بشكل موسع ولقطاع جماهيري أكبر، ولكن الأمر ليس بيدي، فأمر العرض يتحكم به الموزعون. حاولت مرارا عرض الفيلم في قاعات السينما أو في قنوات الأفلام والمنصات الجديدة، ولكن المعاير المتحكمة في آليات العرض تجارية بحتة. غالبا ما يتم الترويج لفكرة أن الجمهور هو الذي يريد مشاهدة نوعية بعينها من الأفلام ولكن هذا غير صحيح، فالجمهور لا تتاح له أصلا فرصة مشاهدة أفلام مختلفة تم إنتاجها في سياق السينما المستقلة.
دون مبالغة أصبحت لك سمعة جميلة في المهرجانات العالمية. جائزة لفيلم مستكة وريحان كأفضل فيلم روائي في المسابقة الدولية بمهرجان إل- دَب السينمائي (L-DUB Film Festival) عام 2017 بولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، وجوائز أخرى عن أفلام في آسيا وأوروبا وتقدير في المحافل المصرية مثل الأوبرا والمهرجان القومي للسينما المصرية، ومهرجان الإسكندرية للفيلم القصير. ألا يشجعك هذا على طرق أبواب شركات الإنتاج المصرية لإخراج فيلم أو مسلسل للتليفزيون. هل هو الوضع العام للسينما أم هي الإسكندرية تعطي أصحابها إحساسا بالاستغناء؟
لا أعتقد أن الأمر بهذه السهولة، قد أكون مخطئة، ولكن أتمنى أن أجد يوما شركة إنتاج مستعدة لتحمل نفقات إنتاج فيلم لي، دون أن اضطر للمشاركة في الإنتاج، وتحمل مسئوليات كثيرة وأدوار مختلفة في عملية إنتاج الفيلم.
فيلم ألف رحمة ونور عام 2014 شقيقتان تعودان من مراسم دفن زوج إحداهما، وفيلم كان وأخواتها عام 2016 نساء مسنات يبحثن عن طاقة فرح بالمكان والحكايات، وفيلم مستكة وريحان عام 2017 الوحدة والعَجَز ورغم أن في كل منها طاقة على الحياة، لكن يخيل لي أن إحساس الزوال يعكس قراءة فلسفية لك. فهل تأثرتِ بالفلسفة؟
قطعا، فلقد درست الفلسفة ولي قراءات كثيرة فيها، بل أن رسالة الدكتوراه الخاصة بي كانت عن الأثر الذي تركته فلسفة ميشيل فوكو على النظريات النقدية المختلفة. ومع هذا فغالبا ما توصف أفلامي بأنها سلسة وبسيطة، ويسعدني ذلك كثيرا، فأفلامي ليست نخبوية، بل أنها تتقاطع مع كل شرائح الجمهور، قد يرى بها البعض مغزً فلسفي عميق، وقد يراها آخرون بسيطة، سلسة. بالتأكيد ثقافتي الفلسفية والأدبية أسست بنية أعمالي، ولكنها لا تفرض نفسها بشكل مباشر، بل تتسرب بين الحين والأخر بصوت هامس، وغالبا دون تخطيط مني.
رغم ارتباط علمك الأكاديمي بالشباب؛ لكن أفلامك الروائية القصيرة معنية بالنساء العجائز أكثر فهل هي حكمة مبكرة أم هاجس النهايات أم خبرات مسكوت عنها؟
نعم، ربما هو هاجس النهايات، كما أنني منذ سن صغير كنت أميل دوما لمرافقة من هن أكبر مني سنا، وكنت استمتع كثيرا بأحاديثهن، وكانت تلك الحكايات تمنحني فرصة للتأمل، واستكشاف الحياة بمنظور مختلف عن من هن في مثل سني.
من كتابة الرواية لتدريس الأدب الإنجليزي في الجامعة، وكتابة سيناريو وإخراج أعمالك؛ يعكس هذا إدراكا للوحدة بين الفنون، فهل يشغلك ذلك حقا أم هو ابن خبرة الحياة والثقافة؟
أؤمن بوحدة الفنون وتكاملها، قد يرى البعض ذلك نوعا من التشتت والتمزق، بل نصحني الكثيرون بالتركيز على جانب واحد، ولكن يبدو أن هذه طبيعتي، فلي عدد من الاهتمامات، وأعتقد أنها تثري بعضها البعض. بل أنني كنت أود لو اتسعت تجربتي لتشمل مجال المسرح والفن التشكيلي أيضا، ولكن كثرة الاهتمامات والمسئوليات والأعباء لم تسمح بذلك.
الآن هناك جماعات أدبية كثيرة في الإسكندرية لكن أراكِ بعيدة عن تجمعات الشباب الأدباء والفنانين في جماعاتهم لماذا؟
أحاول بين الحين والأخر الانخراط في تلك الدوائر، ولكن لدي العديد من الالتزامات التي تستهلك وقتي وطاقتي، كما أن الإبداع يتطلب قدرا كبيرا من التركيز والجهد والانعزال. أضف إلى ذلك طبيعتي الشخصية التي تميل للهدوء، والتأمل.
ما هي العقبات التي تواجه المشروع الإبداعي والفني لدينا عبد السلام؟
ربما التفكير في جدوى ونفع ما أفعله، ربما الإحباط، ربما عدم وجود منح وتمويل لصناعة أفلامي، ربما ضيق الوقت وكثرة المسئوليات.
كيف ترى المشهد الراهن للسينما المستقلة، وإلى مدى يمكن لمثل هذه النوعية استقطاب جمهور من جميع الشرائح المجتمعية؟
أعتبرها الملجأ والملاذ المتاح لكل من يرغب في صناعة أفلام في الوقت الحالي بعيدا عن تحكم آليات الإنتاج التجاري، بالطبع السينما المستقلة تقع على الهامش، وجمهورها محدود، ويبقى أمر انتشار هذه الأفلام مرهونا بالموزعين ولكن قد تتغير الأوضاع في المستقبل نتيجة للثورة التكنولوجية الهائلة، وانتشار منافذ عرض جديدة.
هل أخذك إخراج وإنتاج السينما المستقلة من مشروعك الإبداعي أم أن كتابة الرواية والقصة هي على هامش اشتغالك بالسينما؟
نعم، اعترف أن عملي بصناعة الأفلام قد استهلك الكثير من وقتي ومجهودي، فصناعة الأفلام ليست بالأمر السهل، وتمر بمراحل عديدة، أضف إلى ذلك كوني أعمل في إطار السينما المستقلة، مما يجعل مهمتي أكثر صعوبة إذ يتوجب على ارتداء قبعات كثيرة والقيام بمهام عديدة، مثل هندسة المناظر أحيانا، والمونتاج أو المكساج أو كليهما، إلخ.. لضعف الميزانيات. ولذلك أعتقد أن مصطلح "صانع فيلم" أدق من "مخرج" في حالة السينما المستقلة، لاشتماله على مهام عديدة من أوجه صناعة الفيلم.