«الجاردونا».. قصة جمعية سرية اتخذت من النساء الفاتنات عيونا لها
لعبت الجمعيات السرية دورا هاما في تاريخ البشرية، وأثرت تأثيرا عظيم الخطر بعيد المدى وكانت في بعض الأحيان أداة هائلة من أدوات التغيير والإصلاح والبناء، وفي أحيان أخري كانت وسيلة من أقوى وسائل الهدم والتدمير أو هز أركان المجتمع وزعزعة رواسيه وتفكيك روابطه، وساعدت الجمعيات السرية في بعض الأحيان الأهداف الكبيرة، والغايات المثلي علي التحقيق، وفي أحيان أخري جلبت الجمعيات السرية جلبت المصائب الكبيرة وكانت سببا في وقوع الأحداث الجليلة والجرائم المنكرة.
وفي كتابه "الجمعيات السرية" والصادر عن مشروع مكتبة الأسرة يشير مؤلفه علي أدهم إلى أنه من بين هذه الجمعيات السرية جمعية "الجاردونا"، وهي جمعية سرية وجدت في عهد الملك فرديناند الكاثوليكي ملك أرجون وقشتالة، وكانت عبارة عن عصابات من اللصوص، رفضت أن تؤدي الضريبة للقساوسة ورجال مجالس التفتيش والخزينة الملكية، مما حدا بالملك فرديناند أن يطاردهم بعدما امتنعوا مشاركة القساوسة والملك لغنائمهم.
واتخذت جمعية "الجاردونا" مدينة إشبيلية مقرا لها، واتفق كبار أعضائها علي وضع كلمات السر الخاصة بها وابتكار الرموز والإشارات المناسبة، ووضع قواعد تنظيم الحملات وطرائق الانضمام إلي الجمعية ووسائل تدريب الأعضاء وتشجيعهم أو معاقبتهم وتأديبهم، وقد وضعوا للجمعية نظاما صارما دقيقا٬ ولذا كانت حملات النهب والسلب والإتلاف والإحراق والقتل التي تنظمها جمعية الجاردونا٬ تمتاز بدقة النظام وإحكام الخطة وتحقيق الأغراض المنشودة، وحتي المتسولين في العواصم الكبيرة كانوا لا يستطيعون مباشرة مهنتهم إلا بإذن من جمعية الجاردونا.
ويتابع علي أدهم في كتابه الجمعيات السرية: كانت جمعية الجاردونا جماعة إجرامية محضة غرضها الأصيل هو الإجرام، وكانت مستعدة للقيام بأية جريمة لقاء مقدار من المال يتناسب مع خط الجريمة من الصغر أو الضخامة، وكانت في قائمة جرائمها القتل والسرقة وتشويه الوجه أو بتر أحد الأعضاء أو شهادة الزور، أو خطف الأطفال، أو اختطاف النساء لأي غرض كان أو حمل أحد الخصوم إلي إحدي السفن وبيعه بيع الرقيق٬ وحرق المنازل وإغراق المحاصيل، وكان لكل جريمة من هذه الجرائم وأمثالها تعريفة معينة.
وكانت جمعية الجاردونا تفي بوعدها ولا تقتصر في ارتكاب الجريمة المطلوبة متي تقاضت الثمن٬ وكانت مجالس التفتيش من أحسن عملاء الجمعية، فقد دلت سجلات الجمعية التي عثر عليها أن مجالس التفتيش قد دفعت للجمعية ما يزيد علي ربع مليون من الفرنكات في خلال سنوات قليلة للقيام ببعض الجرائم الخارجة عن نطاق أعمال مجالس التفتيش الرسمية٬ مع اتساع نطاق تلك الأعمال وشمولها.
ولكي تؤثر جمعية الجاردونا في نفوس العامة وتستميلهم أوجدت أسطورة مضمونها أن السيدة مريم العذراء زارت في جبال البشارات ناسكا طاعنا في السن اسمه "أبو لينير" وبعد أن مسحته بالزيت وأعطته زرا منتزعا من ثوب ابنها السماوي اختفت تاركة ورائها عبيرا عطريا متضوعا فوق الشذي وقد أوجد هذا الناسك جمعية الجاردونا بعد أن كسب لها الحق المقدس في السرقة والقتل.
وقد أوجدت جمعية "الجاردونا" لأتباعها مراتب ودرجات٬ فالمرتبة الدينية ــوكانت تسمي مرتبة الماعز ــ كانت تشمل المسيحيين الجدد الذين يتولون الأعمال الحقيرة، وكانت المرتبة التي تسمو علي ذلك هي مرتبة "الأستار" وهي مرتبة النساء الخادمات اللواتي كن يلتحقن بخدمة البيوت ليصبحن عيونا للجمعية٬ يزودنها بالأسرار المجهولة والمعلومات الخفية، وكانت جمعية الجاردونا تتخذ النساء الجميلات أو صغيرات السن شبكة لاستدراج الضحايا، وتطلق عليهن اسم "الفاتنات"، وتتخذ جمعية الجاردونا الشيوخ المسنين حسني المظهر والمهابة للتجسس في الطرقات والكنائس لأن شعورهم البيضاء وما يبدو عليهم من وقار السن وهدوء الشيخوخة يبعد عنهم الشبهة، ويدعو إلي الثقة بهم والاطمئنان إليهم، وكان يطلق عليهم اسم "المنافيخ" لأنهم كانوا يهمسون في آذان رؤساء الجمعية بالأسرار النافعة والمعلومات المفيدة.
أما رجال جمعية الجاردونا الذين كان يعتمد عليهم في الهجوم علي المسافرين وأمثال ذلك من الأفعال فإنهم كانوا يطلقون عليهم اسم "المصارعين"، ويتلو ذلك طائفة الرؤساء الكبار، وعلي رأس جمعية الجاردونا الرئيس الأكبر الذي يدين له الجميع بالطاعة.
وقد شاء الحظ الحسن لجمعية الجاردونا أن تجد لها مؤرخا من أصدق الرواة وأعظم الكتاب وهو الكاتب الإسباني "سرفانتس" صاحب رواية "دون كيشوت"، فقد وصف لنا سرفانتس في إحدى قصص كتابه المسمي "قصص مثالية" وهي القصة المسماة "رينكوينت وكورتاديلا"، الكثير من أحوال جمعية الجاردونا٬ وصفا صادقا دقيقا يدل علي قوة ملاحظته وسعة معرفته.