علي جمعة: الله أوجب العمل بالظاهر من الناس والبعد عن الظنون
قال الدكتور على جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، إن «الله عز وجل لم يطلع عباده على ما في قلوب بعضهم بعضًا، فليس من سنته سبحانه وتعالى أن تنكشف القلوب للناس، ومن أطلعه الله من الأنبياء على قلوب عباده فإنه لم يأمره أن يعمل بذلك، بل أمره بالعمل بالظاهر، ولذلك أبى رسول الله ﷺ أن يقتل من علم أن في قلبه نفاقا، وقال: إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، [البخاري]».
وتابع «جمعة»، عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، «ووجه ﷺ أصحابه رضي الله عنهم إلى معاملة الغير بما يظهر من حاله، وعدم العمل بالظن والقرائن غير الجازمة الدالة على باطن مخالف للظاهر، فقال لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، ظنًا منه أنه قالها متعوذًا من القتل، فقال ﷺ: هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا [مسلم]».
وأضاف «وقال ﷺ يوما للمختصمين عنده: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار» [البخاري]».
وأوضح أنه «بذلك أوجب الله على المسلمين العمل بالظاهر والتثبت من الحقيقة، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوى لا يملكون عليها بينات، وهذا من رحمة الله وتيسيره على عباده، ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، بل أوجب الله -عز وجل- ذلك في حالات الحرب، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:94]».
وواصل «ففي الآية تذكير للمؤمنين بأن نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم، وقد كانت هذه النعمة قبل أن يمن عليهم بها مفقودة منهم والذي من عليهم بنعمة الإسلام قادر أن يمن على عدوهم في لحظة القتال، فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوهم للإسلام في تلك اللحظة، قال الحافظ ابن حجر رحمة الله: وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة [فتح الباري] ففي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر، فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة أو حتى بعمل إحدى خصال النفاق، ولا يصح بالأولى أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة وإلا فإن أناسا سيقتلون وحرمات ستنتهك بدعوي قائل إنه وقع في قلبه أن هذا رجل منافق فيقتله أو يسجنه أو يبعده، أو إنه كذاب فيعامله بمقتضى ذلك فيحصل فساد عريض، فيتهم البريء، وتنتهك الحرمات بالدعاوى والظنون الكاذبة».
وأكمل «إن خلاف الظاهر هو الظن وقد قال تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم:28]، ومحاولة الكشف عن الباطن ضرب من التجسس، وقد قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12]، وبذلك تعلم أن قاعدة الحكم بالظاهر قاعدة عظيمة لو وعاها المسلمون وعملوا في جميع الميادين في الحكم بين الناس وفي الحكم عليهم وفي تقويم إعمالهم، لأثر ذلك أكبر الأثر في استقامة المجتمع بإزالة البغضاء ونشر الأخلاق الفاضلة، ولكن من الناس من يحسبون أنهم أذكياء ومن ذوي البصائر النافذة التي تخترق القلوب فتستخرج ما فيها، وتقرأ الغيب في ملامح الوجوه، ولا يعترض هنا معترض بأن الفراسة والتو سم حق، لأننا نقول إن الفراسة أهلها من الذين نور الله قلوبهم بالعلم والإيمان، وهي مع ذلك لا يجوز الحكم بها، لأن صاحب الفراسة مهما علا شأنه فلن يبلغ رتبة النبي ﷺ الذي كان يقضي ويحكم بالظاهر».
واستطرد «قال الشاطبي: «إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، أيضا فإن سيد البشر ﷺ مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظاهر فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك» [فتح الباري] فاللهم وفقنا لما يرضيك عنا، واجعلنا ممن يطيعونك فيما تأمر وتنهى».