عمّار في بحر النغم: كيف عاش الشريعي وسط أمواج الطرب؟
«كلّ الناس عندها نظر، لكن الأهم مَن فينا يملك وجهة النظر؟».. هذا هو مبدأ الموسيقار عمار الشريعي (16 أبريل 1948 - 7 ديسمبر 2012) الذي عاش به منذ طفولته وحتى وفاته، فهو صاحب الإبداعات الموسيقية المدهشة، وكما قال عنه «سيد الشعراء» العم سيد حجاب: «واحد من تلك الفصيلة النادرة الرائعة من المجانين العظام، حزمة من المتناقضات المرعبة التي تناغمت وتفاعلت لتعطي ذلك النسيج الإنساني والموسيقي الفريد والمتميز والمدهش».
كانت عائلة عمار ترى أن الله ما دام رزقهم بطفل كفيف، فلا بدّ وأن يصبح مثل طه حسين، لكنه كان يرى شيئًا آخر، واختلف مع عائلته كلها عدا والده، إذ كان يتمتع برؤية أعمق ربما؛ لأنه درس في الخارج، فكان إذا حدث له موقف يتعلق بفقد بصره تتباين ردود أفعال عائلته، فكانت والدته تبكي، أما والده كان يناقشه بود وصراحة، وكانت لهذه المناقشة دور كبير في أن تتفتح أمامه كل طرقات الحُلم.
كان عمار يرغب في البداية أن يصبح وكيلًا للنيابة، إلاّ أن ذلك كان مستحيلًا، فقرر أن يكون محاميًا ورغم ذلك درس الأدب الإنجليزي، وانتهى بأن أصبح أحد أعمدة الموسيقى في مصر.
• الشّريعي: «واحد من الناس»
في حوار له ببرنامج «واحد من الناس» للإعلامي عمرو الليثي، أكد عمار الشريعي أنه لا يعتبر الحديث عن فقد بصره «أمر حساس»: «اتولدت مبشوفش، ومخسرتش حاجة، ومن ساعة ما وعيت على الدنيا وشايف العالم كده، يعني مكنتش بشوف وفجأة مبقتش مبشوفش».
وردا على سؤال «كيف كان يرسم صورة الأشخاص من حوله؟»، أكد الغوّاص في بحر النغم أنه حينها لم يكن في حاجة إلى رسم صورة للشخصيات، بل كان يرسم شخصيات فقط: «لمّا سألوني توافق تعمل عملية وتشوف، قولتلهم أخاف؛ لأن عالمي هيتهد، وقناعاتي هتتغير، وخايف النور اللي شايفه يروح».
• هكذا كان يعيش عمار الشريعي
قال الكاتب والشاعر إبراهيم داود، إن الشريعي كان عائشًا كما لو كان شخص عادي، ولم يكن لديه عقدة العمى، إذ ولد مكفوف، ولم يرَ الدنيا ثم فقد نظره، لكنه استطاع أن يتعايش مع الأمر، موضّحًا أنه ينتمي لأسرة عريقة وميسورة الحال من مدينة سمالوط التابعة لمحافظة المنيا بصعيد مصر، كانت محل رعاية شديدة له، وكان حلمهم أن يتجه ابنهم في طريق الأدب لطه حسين، والتحق بالجامعة.
أوضح داود، لـ«الدستور» أن عمار الشريعي عاش حياته كما أراد، فقد احترف الموسيقى وصمم على ذلك، وكان دائما ما يدهشه، وفي أغلب الأحيان التي جمعتهما كان يشعر بأنه ليس كفيفا، وكانت كثيرا ما كانا يشاهدان المباريات سويا، فكان يتحدث إليه وكأنه يرى تحركات الكرة في الملعب، كما أن لديه خبرات غريبة، مثل تصليح الأجهزة المعقدة، وأدوات الموسيقى المختلفة.
• عَمَار يا شريعي: «الأماكن كلها لك !»
علاقة وثيقة جمعت بين عمار الشريعي بالأماكن، هذا ما أكده الكاتب الصّحفي والشاعر الغنائي محمد العسيري في حوار سابق جمعه بـ«عمّار الألحان» مع صحيفة «صوت الأمة»، قال له عمار بـ«منتهى الطرب» إنه يستطيع أن يتعرّف على منطقة حدائق الزيتون من رائحتها، فلو ذهبا سويًّا غلى هناك، وبمجرد وصوله إلى هناك يمكنه أن يتعرف عليها دون أن يُخْبره أحد.
• خفة دم صاحب «الرُّبع تون»: «طبعًا أحباب»
في كتاب "طبعًا أحباب" لإبراهيم داود، والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2019، ذكر مؤلفه: أنه «لم يكن عمار فنانًا كبيرًا ومعلمًا وصديقًا وأخًا، فقط، بل كان عنوانًا لمصر المبدعة التى لا تعرف المستحيل، مصر المؤمنة المتسامحة الموهوبة المباغتة، يفيض نغمًا ومودة ورقة، إذا غبت عنه وتصافحتما حتى لو بعد سنوات لا تستغرب إذا قال لك «إنت خاسس ليه أو إنت مكتئب ليه؟»، سيعرف حالتك حتى لو كنت صامتًا، كان حكيه موسيقيا، ويشاهد بعينيه وقلبه، تحرسه طفولة بعيدة وهو يحكى، صوته القريب من القلب يحرض على الفرح، ويأخذك إلى حيث تريد أن تكون، مع الموسيقى وفن تلاوة القرآن، مع الشعر العربى والإنسانى، مع «ورطاته» الكبيرة التى يحكيها بخفة ظل لا مثيل لها.