الدستور تنفرد بنشر فصل من كتاب «السادات.. شميت: حوار الأزمات»
بالتزامن مع الذكرى الــ47 لنصر أكتوبر، تنفرد الــ"الدستور" بنشر فصل من أحدث إصدرات دار العربي للنشر كتاب "السادات.. شميت: حوار الأزمات".
الكتاب من تأليف كارل جوزيف كوشيل، الأستاذ بكلية علم اللاهوت الكاثوليكية بجامعة توبنجن المتخصص في علم حوار الأديان، وترجمة الدكتور محمود عبدالله النزلاوي، أستاذ اللغة الألمانية وآدابها بكلية الألسن جامعة المنيا وأستاذ زائر بجامعة توبنجن بألمانيا وإنسبروك بالنمسا.
يتناول الكتاب بصفة أساسية لقاء تم بين المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميت والرئيس المصرى الراحل أنور السادات في رحلة نيلية في ديسمبر 1977، حيث تخلل هذه الجلسة حديث طويل بين السياسيين الكبيرين حول الدين ودوره.
ويعرض المؤلف هنا كيف شكَّل هذا اللقاء وهذا الحديث نقطة تحول جذري في موقف هيلموت شميت من أهمية الدين في السياسة.
بعد هذا اللقاء، اكتسب الدين مفهومًا جديدًا لدى هيلموت شميت، وكيف يُمكن تحقيق السلام العالمي من خلال ذلك. فأتباع الديانات التوحيدية الثلاث "اليهودية والمسيحية والإسلام" كلهم جاءوا من أصل واحد وأب واحد، من النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما أن هذه الديانات الثلاث تعرف إلهًا واحدًا. هذه الحقيقة إذا فطنوا إليها لن يجدوا سببًا للعداوة والكراهية والشعور بالفوقية على الآخرين. فقوة الإيمان قادرة على الالتزام بتحقيق السلام ونبذ الكراهية؛ لأنها أكبر بكثير من مجرد المصالح المادية المشتركة.
وقد تم الاحتفاء بالنسخة الألمانية للكتاب وقت صدورها في السفارة المصرية ببرلين في ديسمبر 2018 بينما تم الاحتفاء به في السفارة الألمانية بالقاهرة في فبراير 2019.
ـــ رحلة "هيلموت شميت" إلى النِّيل.. ديسمبر 1977
في نهاية ديسمبر 1977، سافر "هيلموت شميت" مع زوجته "لوكي" في زيارة رسمية إلى ضفاف النيل، وكانت هذه هي رحلته الأولى إلى مصر.
كان الجزء الرسمي الخاص بالعمل في هذه الزيارة في الفترة من 27 إلى 29 ديسمبر، تليه إجازة خاصة حتى 6 يناير لزيارة المواقع الأثرية في صعيد مصر. ورافق الزوجين في هذه الرحلة "كلاوس بولينج"، رئيس المكتب الاتحادي للصحافة والمعلومات في الحكومة الاتحادية، والدكتور "كلاوس ديتر لايستر"، رئيس مكتب المستشار وبصحبته زوجته وهي ضابط طبيب حصلت على تفرغ من وزارة الدفاع، والسكرتير الشخصي للمستشار وسبعة من ضباط الأمن. ولا يزال الجدول الزمني للبرنامج الشخصي للمُستشار لزيارة الآثار الذي أعدَّ بواسطة البروتوكول الألماني محفوظًا في أرشيف "هيلموت شميت"، حتى إنني تمكنت من إعادة تتبع هذه الرحلة خطوة بخطوة.
_ في زيارة رسمية لمصر
كان هدف هذه الزيارة الرسمية في بداية الأمر في المقام الأول مصالح سياسية عملية. وكان "السادات" قد زار "بون" في وقت سابق بالفعل في مارس 1976، ثم في أوائل أبريل 1977، مما ساهم في التأسيس لـ"علاقة شخصية ودية" بينه وبين "هيلموت شميت"، وهذا هو السبب في أن كليهما أصبحا الآن يستخدمان أسلوب الخطاب الشخصي للغاية، مثل "صديقي العزيز"، أو "صديقي المحترم"، لكنهما كانا في الوقت نفسه يدركان الوضع السياسي غير المستقر في الشرق الأوسط، والذي أصبح بعد رحلة السادات من أجل السلام أكثر سهولة وأكثر تعقيدًا في الوقت ذاته. فقد أصبح أسهل؛ لأن "السادات" أبدى رغبة حقيقية في السلام على خلاف ما كان متوقعًا من رئيس لبلد عربي. وزاد صعوبة لأن "السادات" جلب على نفسه الحنق والغضب، وربما الرفض المدفوع بالكراهية من جانب عديد من الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط. و"هيلموت شميت" كان يعرف ذلك.
وبالتالي فقد كان "شميت" مجبرًا في هذه الزيارة الرسمية على القيام بموازنة دبلوماسية، أو بالأحرى السير على خط وسط بين تأييد مهمة "السادات" من أجل السلام من جهة، ومراعاة حقوق ومصالح الفلسطينيين من جهة أخرى. على أي حال، لا تتصور السياسة الألمانية اتخاذ مسارٍ منفردٍ في الشرق الأوسط، فهي جزء من السياسة الأوروبية والعالمية. كما أن رؤساء حكومات دول الاتحاد الأوروبي التسعة قد اعترفوا في إعلان الشرق الأوسط الصادر عنهم يوم 29 يونيو 1977 بحق الفلسطينيين الأساسي في أن تكون لهم دولتهم. وقبل ذلك بيومين، وافقت الحكومة الأمريكية الجديدة في عهد الرئيس "جيمي كارتر" بصفة مبدئية على مطلب الفلسطينيين في أن يعيشوا في ظل اتحاد حكومي منفصل. كما أن "هيلموت شميت" كان يعي أيضًا جيدًا أن مشاركة الروس أمر حتمي. فهم في النهاية أحد المشاركين في رئاسة مؤتمر "جنيف" حول الشرق الأوسط. وبالتالي، يجب على المستشار، مع تأييده التام لمُبادرة "السادات" للسلام، ألا يترك انطباعًا بأن هذه السياسة موجهة ضد موسكو، أو أنها تستهدف تهميش الروس في هذه المنطقة الرئيسية من السياسة العالمية.
من ناحية أخرى، تستطيع الجمهورية الاتحادية أن تقدم كثيرًا لمصر، لأن مصلحتها في استقرار نظام "السادات" كبيرة؛ إذ يُمكن مساعدة "الصديق" ودعمه سياسيًّا، وبالأخص من خلال المساعدات الاقتصادية.
كان "شميت" يعرف أن ملعب السياسة الخارجية سيزداد اتساعًا أمام "السادات"، وسيُتيح له دورًا أكبر كلما تناقصت المشاكل الاقتصادية في الداخل. وهذا بالتحديد ما طلبه "السادات". فقبل أسبوع فقط من الزيارة الرسمية للمستشار في 22 ديسمبر، أجرى رئيس مجلة "شتيرن" التي تصدر من "هامبورج" مقابلة مع "السادات"، شرح فيها الأخير مدى إعجابه بـ"هيلموت شميت"، بل كان مجاملًا لدرجة ذكر فيها أن الألمان يتمتعون بشعبية كبيرة في مصر، وأنهم "جريئون" و"موهوبون في مجالات العلوم والمجال العسكري والاختراعات".
وقال إن الوقت قد حان كي يقدم الألمان "يد العون" لمصر، ثم أجاب عن سؤال عما إذا كانت "بون" تستطيع أن تساعد مصر "على المستوى السياسي" أيضًا، وأجاب: "نعم، لقد ناقشت هذا الأمر بالفعل مع شميت، وهو مستعد للمشاركة في التسوية السلمية الدولية في الشرق الأوسط" (Stern، Nr. 53، 1977).
و"هيلموت شميت" يساعد مصر بطريقة عملية تمامًا، كما فعل غيره من رؤساء الحكومات الاتحادية السابقة أيضًا. فخلال زيارته الرسمية، على سبيل المثال، وعد الرئيس بزيادة رأس المال الألماني بمقدار 250 مليون مارك ألماني في عام 1978، وهو المبلغ نفسه الذي تلقته مصر في عام 1977. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك أيضًا مبلغ إضافي بقيمة 60 مليونًا مرتبط بشراء سيارات من جمهورية ألمانيا الاتحادية. وأخيرًا، ينبغي رفع ضمانات "هيرميس" المضمونة من قبل الدولة من 550 إلى 750 مليون مارك ألماني لأسباب عُليا تتعلق بالسياسة الخارجية.
"بُعد النظر" و"الشجاعة الشخصية"...مائدة مستديرة في القاهرة
بدأت الزيارة الرسمية يوم الثلاثاء 27 ديسمبر بحفل عشاء في قصر "عابدين" في وسط القاهرة، المقر السابق للملوك، وهو الآن أحد قصور الرئاسة الرسمية في مصر.
استمتع الضيوف الألمان ببرنامج غني من الرقص والموسيقى؛ رقصات شرقية نموذجية بارعة، منها: رقص الفتيات اللاتي يحملن الشموع على رءوسهن، أو الرقصات الشعبية الصعيدية، حيث يظهر الرجال مهاراتهم الكبيرة في الرقص بالعصي.
ألقى "هيلموت شميت" خطاب المائدة المستديرة المُعتاد كجزء من البروتوكول ردًّا على خطاب الترحيب الذي ألقاه الرئيس "السادات"، وقد حُفِظ نصه في أرشيف "هيلموت شميت".
كان الخطاب يتحدث في جزء منه عن العلاقات الثنائية الجيدة بين ألمانيا ومصر. وفي الجزء الثاني منه يشمل القضايا الدولية حول "سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط". فبعد أربعة أسابيع فقط من رحلة "السادات" إلى "القدس"، لم يكن بوسع المستشار الألماني أن يشيد بما يكفي "بالشجاعة الشخصية العظيمة" لـ"السَّادات" و"بعد بصيرته كرجل دولة".
كما علم أن "السادات" قد التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي للمرة الثانية في اليومين السابقين، في 25 و26 ديسمبر. وكان "مناحم بيجن" قد قبل دعوة "السادات" إلى الإسماعيلية، وتفاوض بصُحبة وزير خارجيته "موشيه دايان" ووزير الدفاع "عيزر وايزمان" بشكل مباشر مع "السادات" للمرة الأولى، على الرغم من أن اختلاف وجهات النظر حول سيناء المحتلة وأزمة الفلسطينيين ظلت دون التوصل لحل وسط.
ومن الواضح أن "هيلموت شميت" لم يكن يعرف شيئًا عن ذلك اللقاء، حيث لمَّح في كلمة إلى اللقاء الأول مع "بيجن" على الأراضي المصرية منذ رحلة "القدس": "لقد اجتمعتم بالأمس وأمس الأول، للمرة الثانية خلال فترة قصيرة، برئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يحاول بناء الجسور مثلكم يا سيدي الرئيس. وسوف تتبع ذلك مفاوضات أخرى لمُعالجة القضايا الصعبة التي كانت تحول دون السلام في الشرق الأوسط منذ نحو 30 سنة. ومن الواضح أن كل ذلك لن يكون ممكنًا إلا من خلال مفاوضات مكثفة. وستتطلب هذه المفاوضات قدرًا كبيرًا من الصبر والخيال الإبداعي، وستضم في نهاية المطاف ممثلي الشعوب الأخرى التي تعد طرفًا في النزاع".
على أي حال، أعرب المستشار عن إعجابه الشديد بقرار "السادات" التاريخي "بعرض القضية العربية أمام البرلمان والحكومة الإسرائيلية، بل أمام العالم بأسره".
فقد خلقت زيارة "السادات" إلى إسرائيل "آمالًا جديدة" بأنه "من الممكن تعزيز وبذل الجهود لحل نزاع الشرق الأوسط بعد 30 عامًا من الركود ولإنقاذ العالم من حرب أخرى".
وتوجه المستشار لمخاطبة الرئيس مباشرة قائلًا: "إنني أشاطركم الأمل في أن الاهتمام القوي الذي أحدثته مبادرتكم غير المسبوقة سيجد الاستجابة الضرورية وسيؤدي إلى تسوية سلمية شاملة". وتابع "هيلموت شميت" قائلًا إنه يعلم أن مبادرة "السادات" "لم تلقَ التأييد فقط في العالم العربي". وأنه من "المفهوم جيدًا" أن الأفكار الجديدة حول البدء في حل سلمي، والتفكير فيما لم يفكر فيه أحد حتى الآن، وكسر المحرمات، أثارت مقاومات وتوترات". واختتم "هيلموت شميت" هذا الجزء من خطابه قائلًا: "لكنني آمل بشدة أن يتم التغلب على المتناقضات في نهاية المطاف لمصلحة السلام". في تقديرنا، فإن أهم الأحزاب المشاركة في نزاع الشرق الأوسط تتفق من حيث الجوهر مع ما قيل في القدس وتؤيده.
- برنامج الزيارة..الأقصر- أسوان- أبوسمبل
بعد يومين، أي في يوم الخميس الموافق 29 ديسمبر، بدأ برنامج الزيارة الخاصة، حيث اتَّجه الوفد الألماني بعد الظهر في رحلة إلى الأقصر، المدينة الأسطورية الواقعة على النيل في صعيد مصر، حيث نزلوا هناك في فندق "نيو وينتر بالاس"New Winter Palace، ونظرًا لتأخر الوقت، فقد كان هناك عشاء خاص وبعدها تمت مشاهدة أحد "العروض" الأكثر إثارةً، التي كانت مصر تقدمها للزوار في ذلك الحين، وهو عرض "الصوت والضوء" في معبد "آمون" الرائع في "الكرنك".
يوضح الجدول الزمني للبروتوكول الألماني ما يلي: "كانت قاعة الأعمدة الكبيرة التي تحوي 134 عمودًا من الحجر الرملي على مساحة أكثر من 5000 متر مربع جديرة بالاهتمام والمشاهدة على وجه الخصوص. وبملابس دافئة".
في اليوم التالي، أي يوم الجمعة الموافق 30 ديسمبر، كان البرنامج الكلاسيكي لزيارة معبدي الأقصر و"الكرنك"، حيث توجه الضيوف إلى الضفة الأخرى لنهر النيل بواسطة العبَّارة، ثم توجهوا إلى "وادي الملوك" ليزوروا هناك مقابر الفراعنة الفريدة.
زار الضيوف الألمان أولًا قبر "توت عنخ آمون" (1332 - 1323 ق.م)، الذي اكتشفه عالم الآثار البريطاني "هوارد كارتر" عام 1922، ونظرًا لاكتشافه المتأخر كأحد قبور الفراعنة القليلة التي لم تُدنس، فقد اكتسب شهرة عالمية كبيرة، ثم قبر "رمسيس السادس" (1145 - 1137 ق.م)، المشهور عالميًّا بجدارياته الفخمة التي تعرض أسطورة خلق السماء والأرض والشمس والنور والحياة في صور مذهلة وتشرحها بآلاف الرموز الهيروغليفية. ثم توجهوا إلى المعبد الجنائزي للملكة "حتشبسوت" (1479 - 1458 ق.م)، وهو بناء فريد من نوعه على شكل شرفات، وهو منحوت جزئيًّا في صخور الجبال. ثم في الصباح نفسه، كانت هناك رحلة إلى "وادي الملكات"، وزيارة قبر الملكة "نفرتاري"، وقبر الأمير "آمون حر خبشف"، وقبري زوجة وابن "رمسيس الثاني"، "العظيم" (1301- 1213 ق.م). سجل البروتوكول الألماني هنا ملاحظة وُضعت بين قوسين؛ كانت "المقابر- التي لم تعد متاحة للجمهور عادةً- متميزة بألوانها الزاهية على الجداريات". وفي فترة ما بعد الظهر، قام الضيوف بزيارة معبد "آمون" العملاق في "الكرنك"، وهو يبعد ثلاثة كيلومترات عن مدينة "الأقصر"، والذي كان قد شاهدوه الضيوف الليلة الماضية في عرض "الصوت والضوء" دون أن يتمكنوا من تمييز أبعاده العملاقة، ثم عادوا إلى الأقصر، واختتموا الرحلة بجولة في معبد "الأقصر". مرة أخرى، ملاحظات البروتوكول: "تمثالان عملاقان يبلغ ارتفاع كلٌ منهما 14 مترًا للملك رمسيس الثاني، ومسجد"، حيث اختتم برنامج الزيارة الكامل لهذا اليوم بجولة في متحف "الأقصر".
كان اليوم التالي، يوم السبت الموافق 31 ديسمبر، موعدًا حاسمًا بالنسبة لنا، حيث سافر الوفد على ظهر النيل على متن الباخرة "إيزيس" (التي سميت بهذا الاسم نسبةً إلى الربة الأم) بصحبة "السادات" وزوجته في اتجاه أسوان.
ووصل الساعة الثالثة عصرًا تقريبًا إلى مدينة "إسنا" الصغيرة التي تقع على ضفاف النيل، حيث يمكنك أن ترى المعبد الكبير للإله "خنوم" الذي يحمل رأس كبش، والذي يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وهناك قام الوفد بعمل جولة في البلدة الصغيرة التي بلغ عدد سكانها آنذاك 30 ألف نسمة، ورحب بهم السكان ترحيبًا حارًّا، ثم اتجهوا نحو الساعة الخامسة مساءً بالباخرة إلى "إدفو"، حيث وصلوا في وقت متأخر في الساعة العاشرة مساءً. الآن يمكن إنهاء آخر يوم في السنة مع "السادات" وزوجته. ويمكن السهر متأخرًا في عشية رأس السنة الجديدة، ويمكن المبيت على متن الباخرة، حيث يوضح الجدول الزمني للبروتوكول الألماني أيضًا: "الساعة 10 مساءً في إدفو. الاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة مع الرئيس وزوجته على متن الباخرة".
في تلك الليلة، جرت تلك المحادثة المهمة التي لا تنسى بين "هيلموت شميت" و"السادات" على سطح الباخرة، والتي تتذكرها "لوكي شميت" بطريقتها الخاصة. كانت قد عانت من نوبة إغماء في القاهرة بسبب الظروف المناخية واضطرت إلى ملازمة الفراش يوم كامل. ذكرت:
"ثم ذهبنا إلى النيل مع الرئيس السادات. نظرت إلى المناظر الطبيعية التي نمر بها، وكنت سعيدة بالوقوف على قدمي مرة أخرى. أخذ السادات وزوجي يتحاوران، وبالأخص في بعض الموضوعات الدِّينية حتى وقت متأخر من الليل؛ للديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، جذور مشتركة. كلٌ من العهد القديم- التوراة بالنسبة لليهود- والعهد الجديد والقرآن يتكلم عن الله الواحد الأحد. كان زوجي مفتونًا جدًّا بالمحادثة. واستمتع بهذه الرحلة".
باقي برنامج الزيارة يمكن سرده بسرعة. في يوم الأحد الموافق 1 يناير، استمر الإبحار بالباخرة إلى أسوان، ونزل الضيوف في فندق "أوبروي". استغلَّ الضيوف الأيام الثلاثة التالية، من يوم الإثنين الموافق 2 يناير إلى يوم الأربعاء الموافق 4 يناير، في القيام بالعديد من الرحلات الاستكشافية في أسوان والمناطق المحيطة بها، وكان أبرزها الرحلة التي قام بها الضيوف يوم الأربعاء، الموافق 4 يناير، إلى معبد "أبوسمبل"، الذي يقع على بعد 240 كم في جنوب أسوان في الجزء المصري من النوبة. يوجد هناك معبدان ضخمان منحوتان في الصخر في وسط مناظر الصحراء والمياه الرائعة، ويعود تاريخهما إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. بُني أحدهما تمجيدًا للفرعون "رمسيس الثاني"، الذي حكم مصر باعتباره ثالث حاكم في الأسرة التاسعة عشرة في مملكة مصر الحديثة لمدة 66 سنة في الفترة من من 1279 إلى 1213 ق.م. فكان يحرس ويراقب مدخل المعبد وهو يتخذ وضعية الجلوس على العرش في شكل أربعة تماثيل ضخمة بالحجم الطبيعي، ويحمل تاج مصر العليا والسفلى على رأسه كدليل على حكمه المطلق.
أما المعبد الثاني الأصغر فكان مخصصًا للإلهة "حتحور"، ويُخلد ذكرى الزوجة الرئيسية لـ"رمسيس"، الملكة "نفرتاري".
أُنقِذ هذان المعبدان الفريدان في الستينيات من الغرق بسبب المياه الهائلة لسد "أسوان" من خلال عمل رائع قامت به منظمة اليونسكو. كان عملًا فنيًا فذًا؛ فقد قاموا بتفكيك المبنى بالكامل في موقعه الأصلي ونقله قطعة قطعة إلى الموقع الحالي الأعلى سطحًا، حيث أعيد تجميعه كما كان. وفي يوم الخميس، الموافق 5 يناير، وصل وفد من "بون" إلى مطار أسوان لمرافقة المستشار في زيارة رسمية إلى رومانيا، بدأها الزوجان "شميت" من أسوان في اليوم التالي، بعد توديع "أنور وجيهان السادات" لهما في مطار أسوان.
- رواية السادات
في الواقع، ينبغي للرحلة المشتركة على ضفاف النيل مع "السادات" في يوم 31 ديسمبر 1977 أن تكون تجربة لا تنسى، وبالأخص الحديث الليلي على متن السفينة. وهي لا تنسى لأنها- قبل كل شيء- غيرت بشكل جذري وجهة نظر "هيلموت شميت" حول أهمية الديانات الكبيرة للتعايش السلمي بين البشر. لقد قابل المستشار رجلًا "على دراية بـ5000 سنة من التاريخ المصري" كما ذكر ذلك في مقدمته لكتاب "جيهان السادات" "أملي في السلام". وتبع أهمية هذا اللقاء كذلك من أن "هيلموت شميت" لم يحتفظ بما عرفه لنفسه، ولكنه أفصح عنه رويدًا رويدًا بدءًا من عام 1978. وكان مفاده في جميع الأماكن التي روى فيها واحدًا؛ وصف "شميت" نفسه كمتعلم في أمور الدين. ولا يزال من غير المعروف ما إذا كان "السادات" قد تعلم شيئًا من "شميت"، إذ إنه لم يرد أي حديث عن تبادل المعلومات، ومن الواضح أن ذلك لم يكن مهمًّا بالنسبة له في هذا السياق أيضًا. لكن ما تعلمه تلك الليلة على النيل كان "جديدًا عليه تمامًا" و"خطيرًا"، وكذلك ما استمر في تعلمه بعد ذلك. دعونا نُلقِ نظرة على الوثائق بالترتيب الزمني.
لقد أشار "هيلموت شميت" للمرة الأولى إلى رؤية "السادات" في خطاب علني في كلمته بالمعبد اليهودي بمدينة "كولونيا" يوم 9 نوفمبر 1978، أي بعد عام واحد فقط من رحلته النيلية، حيث ألقى المستشار الاتحادي خطابًا حول موضوع الألمان واليهود، والذي يعد من بين أعظم الخطب التي ألقاها الساسة الألمان بمناسبة "ليلة الكريستال" نظرًا لدقة الخطاب التاريخية وقيمته الأخلاقية، والحقيقة أنني عاجز هنا عن أن أوفيه حقه من التحليل والتقدير، كانت المرة الأولى التي أشار فيها "هيلموت شميت" بشكل علني إلى رؤية "السادات" كقصة مقابلة لتجربة الألمان واليهود السيئة. وفي الوقت نفسه، أعقبت القصَّة الإشارة إلى التجديد داخل الكنائس.
كانت هناك إشارة إلى بيان "شتوتجارت" عام 1945، والتي صدرت عن الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا تعترف فيه بخطئها، وكذلك الإشارة إلى الكلمات المؤثرة التي قالها البابا "يوحنا الثالث والعشرون" عن اليهود خلال المجمع الفاتيكاني الثاني. وفي تلك الأثناء، كانت هناك تصريحات عامة للكنيستين المسيحيتين تحمل روح المصالحة والتفاهم. اختتم "شميت" حديثه قائلًا: "على الجميع أن يتذكر أننا جميعًا نقف على الأرض نفسها، وأننا جميعًا نستمر في قبول الكتاب نفسه؛ الكتاب المُقدَّس اليهودي- العهد القديم المسيحي" (ص 1216).
وفي نهاية الخطاب، لمَّح "شميت" إلى رؤية "السادات"، ذلك كي يمكنه أن يُعرِّج على الإسلام ويجعله طرفًا مع اليهودية والمسيحية. في تلك الأثناء، كان قد انعقد اجتماع بين "بيجن" و"السادات" في "كامب ديفيد" أحيا الآمال من جديد.
"لقد أوضح المصري أنور السادات لي خلال محادثات طويلة نظرته إلى الجذور الروحية والتاريخية المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وأشار إلى الوطن المشترك، أقصد سيناء، والأنبياء المشتركين. وسألني بقناعة داخلية كبيرة: أليس من الممكن أن يحل السلام بين هؤلاء الثلاثة؟ وأضيف إلى هذا السؤال سؤال ألبرت أينشتاين الفصيح: مَن الذي يشك في أن موسى كان قائدًا للإنسانية أفضل من مكيافيلي!
أعلم أن بيجن والسادات متعمقان في التقاليد العظيمة لشعبيهما. وأنا مقتنع بأن هذين الرجلين يرغبان في سلام لشعبيهما والشعوب المجاورة. واعلم أن هذا ينطبق على عديد من رجال الدولة في تلك المنطقة من العالم. ونحن الألمان نرغب بشدة في أن يتعلم اليهود والمسلمون والمسيحيون والإسرائيليون والعرب كيف يعيشون معًا في سلام عادل".
بعد خمس سنوات، أي في عام 1983، كانت المرة الثانية التي يستخدم فيها رؤية "السادات" في "خطاب علني رسمي". لم يكن "السادات" في هذا الوقت على قيد الحياة. والآن، هذا الاستشهاد برؤية "السادات" هو بمثابة التذكير بتاريخ وأعمال صاحب الرؤى، والتي تُستخدم في مواجهة قصص الصراع المروعة في الشرق الأدنى والأوسط.
وسبب سرد هذه الرواية هي أول رحلة يقوم بها المستشار "هيلموت كول" إلى مصر، ليلتقي "حسني مبارك"، خلف "السادات" في الحُكم (من مواليد 1928، شغل منصب الرئاسة في الفترة 1981-2011). في مقال للصحيفة الأسبوعية "دي تسايت"، التي يشارك في إصدارها "هيلموت شميت"، في عام 1983، ربط المستشار السابق تحليله لسياسة الشرق الأوسط للمرة الأولى بذكرياته الشخصية حول لقائه المصري "السادات".
كان يعلم أن رحلة "السادات" من أجل السلام عام 1977، ثم اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، وأخيرًا معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 لم تحقق السلام الشامل في الشرق الأوسط على الرغم من استقرار العلاقات الإسرائيلية المصرية، بل على العكس، ما كتبه "شميت" في مقالة "تسايت" المذكورة أعلاه بمناسبة هذه الزيارة الجديدة للمستشار الألماني حول الوضع العام في الشرق الأوسط "من الخرطوم والإسكندرية إلى بغداد والخليج والرياض واليمن"، لا يزال ساريًا حتى من حيث دقة التحليل ورؤيته المستقبلية السياسية. وقد أوصى "بإعادة قراءة تاريخ هذه المنطقة" وخلص إلى النتائج التالية:
"لم يكن هناك سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط في أي وقت من الأوقات، سواء منذ تدمير الإمبراطورية العثمانية، أم تأسيس المملكة السعودية، أم سقوط الملك فاروق في عام 1952، ببساطة هناك عديد من الأسباب المتجذرة تؤدي إلى صراعات في منطقة الشرق الأوسط العربية والإفريقية. وفي الوقت الراهن، هناك حرب في أفغانستان وحرب بين إيران والعراق وصراع مستمر مع الأكراد، الذين يتوزعون في ثلاث دول، وحرب بين إثيوبيا والصومال حول "أوغادين" وحرب أهلية وتدخلات خارجيَّة متفرقة بين السنة والشيعة والدروز والمسيحيين في لبنان. بالإضافة إلى ذلك، نزاع جميع الدول العربية تقريبًا ونزاع منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل، فضلًا عن استعداد ليبيا الدائم للنزاع".
من المفهوم أنه في ظل هذا الوضع، يبقي التذكير بـ"السَّادات"، ذلك الرجل "صاحب الرؤى" أمرًا مُلحًّا وحاضرًا بقوة، وذلك بعد ست سنوات من الزيارة الرسمية، وبعد عامين كاملين من رحيل "السادات". فقد التقاه "شميت" خمس مرات "بين مارس 1976 ومارس 1979". وفي وقت قصير نشأت بينهما صداقة. من المؤكد أن "شميت" رأى "عديدًا من أوجه القصور في السياسة المصرية الداخلية والاقتصادية"؛ لكن "رغبة السادات في تحقيق السلام" قد "لامسته بعمق" وفازت بـ"قلبه". أو على حد قول "شميت" (1983) فإنه:
"كان السادات صاحب رُؤى. يعلم أنه لا يمكن تحقيق سلام شامل. ويعرف مخاطر تحقيق سلام منفصل مع إسرائيل، عليه هو شخصيًّا. وقد تحدثنا عن تلك المخاطر كثيرًا. وكان السادات يُؤمن بأنه لا بد لشخص ما أن يبادر ويبدأ. لم يكن السادات رومانسيًّا يحلق في الهواء، لكنه كان يهتم كثيرًا وعن وعي بتوسيع القوات العسكرية المصرية، التي جاء منها هو نفسه. لقد كان شخصًا شديد التديُّن، ويتأمل في أمور السياسة، ولكنه يتأمل أكثر في الدين. لن أنسى ما حييت الرحلة النيلية من الأقصر إلى أسوان. كُنَّا نجلس على سطح السفينة ليلًا تحت سماء شديدة الصفاء. وأخذ السادات يتحدث عن القدس وبيجن وديان وجولدا مائير. وتحدث على وجه الخصوص عن أنه على استعداد لتقديم تنازلات، وكذلك فهم دوافع الآخر جزء لا يتجزَّأ من عملية صناعة السَّلام".
استخدمت هذه القصة عن قصد من أجل مواجهة تاريخ من الصراع في الشرق الأدنى والأوسط لا يريد أن ينتهي. كان خطاب المستشار السابق يحمل في طياته تعبيره عن أمله بسبب كل المحاولات الفاشلة لتحقيق سلام شامل. وكذلك حمل الخطاب في طياته أمنية المستشار التي لم يفصح عنها في أن يوجد رجال آخرون مثل "أنور السادات"، رجال لا يخافون من الخطر الذي قد يمسهم شخصيًّا، رجال يصنعون السلام بإيجابية من خلال "إرادة التوصل إلى حل وسط" و"فهم دوافع الآخر". "أصحاب رؤية" يعرفون كيف يترفعون عن الصغائر، ولا يفضلون مصلحتهم الخاصة على مصلحة الآخرين، رجال مثل "السادات" الذي قرأنا عنه في صحيفة "شبيجل" بمناسبة وفاته: "لقد كان في عالم الفاعلين والتكنوقراط هو الفاعل والمحرك، لقد كان بالتأكيد حالة خاصة، وسياسيًّا شجاعًا ملهمًا" (421981، S. 140).
بعد ثلاث سنوات أخرى، أي في عام 1986، كتب "شميت" مقدمة لمذكرات "يوهانان ميروز"، السفير الإسرائيلي في "بون" في الفترة من عام 1974 إلى عام 1981، أي طوال فترة مستشارية "هيلموت شميت". تحدث فيها عن "أنور السادات"، وقال إنه يتذكر بكل سرور "صداقته ومحادثاته القائمة على الثقة" مع هذا الدبلوماسي الخاص. وهذه هي المرة الثالثة التي يستشهد فيها المستشار برؤية "السادات" ويذكرها ووظيفتها الرئيسية هي تذكيرنا بالشروط اللازمة لصناعة سياسة سلام دائمة:
"لليهودية والمسيحية والإسلام جذور تاريخية ودينية مشتركة، ولهم أنبياء مشتركون، الثلاثة يؤمنون بأن موسى تلقَّى ألواح الشريعة في سيناء.
كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات هو مَن شرح لي خلال رحلة ليلية على النيل بطريقة مُثيرة للإعجاب كيفية ظهور الإسلام تاريخيًّا، وبالتالي الأصل المشترك للديانات التوحيدية الثلاث الكُبرى. وسألني آنذاك بقناعة داخلية كبيرة: «مع كل القواسم المشتركة هذه، ألا يمكن أن يكون هناك سلام بين أتباع الديانات الثلاث؟» في الحقيقة، أنا أيضًا، مثل السادات، أرى سببًا للأمل في أن يتعلم اليهود والمسلمون والمسيحيون والإسرائيليون والعرب يومًا ما العيش معًا في سلام.
ومع ذلك، يشترط السلام أن تكون جميع الشعوب المعنية مستعدة للتسوية والتسامح والمصالحة. وبعد فترة الرعب التي عشناها نحن الألمان في الرايخ الثالث لا يحق لنا أن ندعو اليهود في العالم إلى المصالحة. لكن يجب أن نرجو منهم المصالحة".
في عام 1993، نظمت صحيفة "دي تسايت" الأسبوعية ندوة حول الإسلام. وقد اعتبرها "هيلموت شميت" فرصة جيدة للجمع بين تأمُّلاته الجوهرية وذكرياته الشخصية حول لقائه "السادات"، ثم الإشارة إلى سياسة سلام من خلالها. وهذا هو الاستشهاد الرابع بالقصة، ويبدو الآن أنه تم توسيعها بشكل ملحوظ لأول مرة بالإشارة إلى التقاليد اليهودية والمسيحية في القرآن والدور الرئيسي لشخصية "إبراهيم":
"لقد قابلت في السبعينيات مُسلمًا أحببته كثيرًا. إنه خليفة عبدالناصر في مصر، الرئيس أنور السادات. لن أنسى أبدًا محادثة مدتها ساعة. كُنَّا مسافرين في رحلة نيلية تتجه إلى الصعيد، وكان الظلام قد بسط أجنحته، وقضينا الليلة بأكملها، كما أعتقد، جالسين تحت السماء المُرصعة بالنجوم نتبادل الأحاديث الفلسفية. أو بالأدق، كان هو مَن يتحدث، وكنت أنا أطرح أسئلة وحسب. أخبرني أشياء لم تكن معروفة بالنسبة لي آنذاك، كان ذلك منذ ما يقرب من عقدين. فقد قال لي إن الوحي الذي نزل على محمد، متمثلًا في القرآن الكريم، يعامل أهل الكتاب من الأديان الثلاثة باحترام كبير. ولم أكن أعرف أن الأديان الثلاثة كلها تؤمن بالأنبياء نفسها، باستثناء اثنين؛ فالتوراة لا تذكر النبي الإنجيلي يسوع المذكور في القرآن أيضًا، والعهد الجديد لا يذكر النبي محمدًا.
لكن كل الأنبياء الآخرين يظهرون في الكتب المُقدسة الثلاثة. لقد تأثرت بشكل خاص ببيان السادات الذي قال فيه إن جميع الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة قد تلقَّت الوحي على أرض سيناء بأننا جميعًا أبناء إبراهيم. وفي جميع الأديان الثلاثة تلقى موسى الألواح، لكن يجب أن تتم توعية الناس مرة أخرى بأنهم جميعًا من الأصل نفسه، ثم يجب أن يكون التعايش السلمي بينهم أمرًا ممكنًا".