إبراهيم فرغلي: سنعرف حقيقة جمال عبد الناصر حين ندرس زمنه بحياد
قال الروائي إبراهيم فرغلي: للأسف الشديد، نحن لم نقرأ تاريخنا بعد. لدينا رغبة شديدة في اختزال كل شيء في كلمة، أو صورة، أو نمط. ولهذا نحتفظ بصور مشوشة عن تاريخنا، صورة ملونة بإيديولوجيات متوارثة، الإقطاعيون لا يحبون عبد الناصر لأنه جردهم من ممتلكاتهم، الإخوان يكفرون عبد الناصر لأنه اعتقلهم، المثقفون الذين تعرضوا للاعتقال يصفونه بالديكتاتورية، والفلاحون يرونه الرجل الذي رفع رأسهم عاليا، والعمال آمنوا بأنهم قوى عاملة قادرون على جعل شعار صنع في مصر شعارا حقيقيا، والقوميون في العالم العربي يرونه رجلا استثنائيا وزعيما قوميا، وكثر يرون أن النكسة كفيلة بهزيمة الرجل ومحو اسمه من سجل التاريخ، أو أنه ورط مصر في حرب اليمن، وهكذا، لا توجد صورة واحدة لعبد الناصر، ومع ذلك فقليلون جدا أولئك الذين حاولوا التجرد، والابتعاد عن تأمل الرجل من زاوية نفعية أو قبلية أو إيديولوجية، وتأمل صور الرجل العديدة للاقتراب من الحقيقة.
ولعل هذا أيضا أحد أسرار قوة استمرار ذكراه إلى اليوم، لدرجة أن كثرا من قراء التاريخ بالهوى والعواطف يحيلون نصف مشاكل مصر المستمرة للآن إليه، رغم أنه مات قبل 50 عاما كاملة!
تابع مضيفا في تصريحات خاصة لــ"الدستور": في تقديري الشخصي أن أي قراءة للتاريخ تغفل السياق الذي يراد تأمله هي قراءة عمياء ومغرضة وغير نزيهة، لأننا في الحقيقة لدينا شواهد على ما أنجزه عبد الناصر في مجالات الصناعة واستصلاح الأراضي وتعليم الفقراء، ووضع مصر على خارطة العالم كدولة تقود دول عدم الانحياز، ولا أعتقد أن ذنب عبد الناصر أن من جاءوا بعده لم يدركوا أن مشروعاته تأسيسية نقلت مصر من زمن إلى آخر، أما صيانة تلك المشروعات وتجويدها وتطويرها وفق التغيرات، فكانت تحتاج لرؤى جديدة لم تتوفر لديهم.
ولا يمكن تأمل رجل مثله من زاوية واحدة، لأن التاريخ لا ينظر إليه أيضا بهذا الشكل، وهذا أيضا في تقديري سبب من أسباب عدم التعلم من التاريخ لأننا لا نقرأه بل نلبسه أزياء من أهوائنا نحن.
إن كان لعبد الناصر سلبيات فكان على من يأتي بعده إصلاحها أو تجاوزها والبناء على إيجابياته، لكن لم يحدث ذلك. مع ذلك فقد بقيت الكثير من مشروعاته صلبة وقوية ودالة على بعد نظره وبينها مشروع السد العالي الذي نرى اليوم أهميته بعد كل تلك العقود كما لم نعرفها من قبل.
ولعلنا أيضا ندرك في استبعاده فكرة الدولة الدينية من حساباته دلالة أخرى على بعد النظر ونحن نرى ما فعلته تجارب الدول الفاشية التي توسلت بالدين مثل إيران أو باكستان أو حتى التي أتاحت لمليشيات مسلحة أن تسيطر عليها في أكثر من دولة عربية.
نعم ربما كان ديكتاتورا، في زمن لم تكن الديمقراطية قد توطدت كثيرا في العالم، ولعله وثق في ضعاف النفوس من أصدقائه الذين غدروا به وأطاحوا به، ولعله أساء التقدير في بعض الحروب التي خاضها، لكنه أيضا أعاد للمصريين كرامتهم، واستعاد سيطرة مصر على ثروتها، وقاد حركة دولية ضد الاستعمار، وعرفت مصر في زمنه ثورة القوة الناعمة ليس عبر الإنتاج الثقافي داخل مصر فقط بل خارجها، حيث صدرت مصر الفن والثقافة لكل العالم العربي، ولإفريقيا، وجعل من الأزهر منبرا يدرس فيه طلبة من العالم، وذاعت شهرة قراء القرآن المصريين في ربوع آسيا وإفريقيا.
سنعرف حقيقة عبد الناصر حين ندرس زمنه بحياد ووعي وضمير يقظ، فلا نغفل ما أنجزه ولا نمدح ما كان من الأخطاء أو الخطايا، وحين نتوقف عن تحميله آثام الآخرين وأحيانا آثام وشرور أنفسنا.