نكون أو لا نكون 2.. فرج فودة يكتب: هل يحرم الإسلام الفن؟
قصة المقال:
فجأة أعلن المتطرفون عداءهم للفن، ورغم أن ذلك العداء كان واضحا منذ زمن بعيد من خلال الحوادث المتكررة لحرق المسارح، مثل الهوسابير ونجم والجمهورية (وربما قبلها حريق الأوبرا لأننا لم نعرف فى تاريخنا كله هواة لحرق المسارح غير هؤلاء)، إلا أن توالى الحوادث وتواترها فى أمكنة مختلفة وفى زمن قصير، شغل المصريين إلى أقصى حد، وأزعجهم أيما إزعاج، ففى كلية أداب القاهرة منعوا حفلا للغناء، وفى جامعة أسيوط دمروا آلات الموسيقى، وفى قرية كودية الزار بمحافظة أسيوط هاجموا فرقة مسرحية، وعلى صفحات أخبار اليوم أعلن الشيخ الشعراوى أن الموسيقى مقبولة إذا لم يترتب عليها اهتزاز الجسد الذى يؤثر على الوقار، وقبلها أعلن استنكاره لسلوك البعض ممن ينامون على موسيقى بيتهوفن.. وهكذا أراد البعض أن يقف الإسلام فى المواجهة مع الفن، وقد تزامن ذلك مع انسحاب بعض الفنانين من ساحة الفن إلى ساحة التفرغ للعبادة، معلنين عن توبتهم وندمهم على ما اقترفوه فى الأيام الخوالى، نذكر منهم الفنانة شمس البارودى والفنانة شادية والفنانة هناء ثروت وأخيرا الراقصة الشرقية (سابقا) هالة الصافى، وقد أعلن الشيخ الجليل الشعراوى أن أغلبهم قد تاب وأناب على يديه..
فى ظل هذا المناخ الذى قد يعجب (بفتح الياء) له البعض، وقد يعجب (بضم الياء) البعض، كان هذا المقال الذى نشرته جريدة "الأهرام" تحت عنوان: "الموسيقى غذاء للروح".
المقال:
اللهم رحمتك وغفرانك (*)
فى الدول المتقدمة، يستعينون بالموسيقى فى مزارع الماشية، لأنها تزيد من إدرار اللبن، ودلالة ذلك أن الماشية تطرب للموسيقى، بينما يدعو البعض إلى حرمان البشر من سماعها بحجة أنها حرام إلا إذا كانت ضربا على الدفوف.
الموسيقى لدى الماشية غذاء للروح، ولدى بعض البشر جموح وجنوح، ولو قدر لهؤلاء أن يفرضوا إرادتهم لأصبح من حق الجماهير العريضة التى تطرب للفن وتتذوقه، أن تتظاهر مطالبة بالمساواة مع الماشية فى حق طبيعى..
أى مفارقة هذه، وفى أى زمان، وعلى يد من؟
المفارقة أن هذه الدعاوى ترتفع ونحن على أعتاب عصر مذهل، يتأهب فيه الإنسان لغزو الفضاء وحرب الكواكب وإنجازات الهندسة الوراثية، والغريب أن أصحاب هذه الدعاوى لهم حظ من العلم والثقافة، وأنهم يظنون، وبعض الظن إثم، أنهم ينفذون إرادة الله، الذى خلق العصافير لتشدو، والطيور لتغنى، والذى أنزل القرآن الكريم آية محكمة من الفن، لغة وأسلوبا وقصصا ومواعظ وهديًا، ولو شاء لأنزله مرسلا بلا موسيقى فى طيات آياته، وبلا روى فى نهاياتها، ولا أنغام تنبعث من حركات الحروف وسكناتها.
إن قراء القرآن الكريم لا يجدون صعوبة فى التغنى بآياته، وهم حين يفعلون ذلك يخضعون قراءاتهم للسلم الموسيقى، ويتبعون فى ذلك قواعد الغناء، فيختارن مقاما دون مقام، ويدخلون مقاما على مقام، وينتقلون من مقام إلى مقام، ولا يعجزهم أن يفعلوا ذلك فى أى سورة يشاءون من بدء القرآن إلى ختامه، بينما يعجزون ويعجز غيرهم أن يفعل مثيلا لذلك بكتاب رصين، رغم أن القرآن بالقطع أكثر رصانة، أو مقال جاد رغم أن القرآن بالطبع أكثر جدية، أو بحث عميق رغم أن القرآن باليقين أكثر عمقا، وما كان ذلك كله إلا آية من الله لعباده، وحجة مفحمة على كل من أنكر الموسيقى واستنكر الغناء وأعلن العداء للفن، وما أكثر من سمعنا محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والمنشاوى وغيرهم، وما أكثر من طربت النفس، واهتز الجسد، وانفعل الوجدان، ووعى العقل، ونحن نستمع منهم إلى محكم الآيات، وما أظن أن أحدا منا قد تصور وهو يفعل هذا كله، وينفعل بذلك كله، أنه ارتكب حماقة أو أتى إثما أو اقترف معصية، ولا أعتقد أن أحدا منا كان يتوقع ما قرأناه من فتاوى تحرم الموسيقى إذا اهتز الجسد، وترفض التطريب إذا انفعلت النفس..
ما الذى حدث لنا فى السنوات الأخيرة، وكيف سعينا حثيثا إلى إنكار العقل أو إهماله، وما الذى دفع البعض إلى البحث فى بطون كتب التراث، سعيا وراء حديث آحاد ضعيف هنا أو فتوى فقيه بلا سند هناك، وما الذى جعل الإنكار أقرب كثيرا من القبول، والتأثيم أهون كثيرا من التكريم، والعسر أيسر كثيرا من اليسر، ولماذا يحرص أبناؤنا أشد الحرص على التمسك بالقشور، والتعصب للشكليات، والتعلق بالفروع، حتى إن البعض منهم يدعى أن الإسلام قد أتى بزى، وأنه فيما يرتديه يستن بسنة الرسول الكريم، وعلمنا وفوق كل ذى علم عليم، أن الرسول لم يأت بزى جديد، وأنه ارتدى زى المقيمين فى مكة، وأغلبهم من المشركين، وأنه لم يغير زيه بعد أن تنزلت عليه الآيات البينات، وأنه ارتدى ما أهدى إليه من زى رومى أو حبشى أو فارسى بلا حرج، وأنه فى زيه كان يقتدى بعصره، تماما كما نفعل نحن الآن، وأن أغلب الفقهاء قد أفتوا بأن سنة الرسول فى الزى والعلاج خاصة بعصره ولا تنسحب على غيره من العصور، وهو ما يمكن أن يحمل عليه الكثير من أمور الدنيا فى عصره أو عصرنا، غير أن البعض فيما يبدو يهمل ذلك كله، ولا يجد حرجا فى الإفتاء بأن سماع موسيقى بيتهوفن قبل النوم حرام، تاركا إيانا نضرب كفا بكف ونحن نتساءل عن علة هذا التحريم، وعن مكان هذا الإنسان الوهمى، الذى تتهيج غرائزه عند سماع بيتهوفن، ويفسد طبعه إذا أنصت لموتسارت، وما أجدرنا بتساؤل آخر عن سند تحريم ما لم يعرفه عصر الرسول من فنون مثل المسرح، ومن آلات مثل الشيللو والكمان والأورج والبيانو، وهل يا ترى تمتد فتواهم إلى كل ما هو متاح وصداح، فتنطلق القوافل الشعبية بحثا عن طيور الكنارى لذبحها خوفا من الفتنة، وإلى خرير الجداول لطمرها تحسبا من الإثارة، وإلى أبواق السيارة لتدميرها تجنبا لمقدمات الزنى..
لا بأس من كسر إيقاع الانفعال بقصة قصيرة، دلالتها خطيرة، قصتها على صديقة للأسرة، قادتها المصادفة لزيارة حضانة للأطفال تابعة لإحدى شركات توظيف الأموال بمدينة ساحلية، وفوجئت بمديرة الحضانة تكرم طفلا فى طابور الصباح أمام زملائه، لأنه وهو فى طريقة للمدرسة وضع قطنا فى أذنيه حتى لا يستمع إلى الموسيقى فى سيارة والده، وقد نسيت المربية الفاضلة، أنها تباهى الأطفال بوحش كاسر فى مقبل الأيام، لأن من لا يرق وجدانه، لا تسمو مشاعره، ولأن من لا تعرف الموسيقى طريقا إلى قلبه لن تعرف الرحمة طريقا إلى سلوكه، ونسيت أيضًا ما هو أهم، وهو أن الإسلام كما تتشدق هى، وكما نؤمن نحن، هو دين الفطرة، وقد نقلت إلينا جدران كهوف الإنسان البدائى رسوما وفنا، ونقلت لنا حضارات ما قبل ظهور جميع الأديان أناشيد وغناء، ونقلت لنا الكتب السماوية حديث مزامير داود وترانيم الملائكة، وصدق الله العظيم حين دعانا إلى التأمل فى آيات الكون، ولو تأمل المعترضون لوجدوا -كما ذكرنا- أن الماشية تطرب للموسيقى فتنتج، وأن الخيل تنفعل بالموسيقى فترقص، وأن الطيور تسبح لله فتغنى، ولأدركوا أن الفن فى مجمله تعبير عن قدرة الله العظيم، الذى وهبنا الجمال، ومنحنا الخيال، فكان الفن..
أقول قولى هذا، والعالم من حولنا منشغل كما ذكرنا بحرب الكواكب وهندسة الوراثة وغزو الفضاء، بينما نحن منشغلون عن ذلك كله بتحريم الموسيقى، وتحريم الغناء، وطول الجلباب، وجنس الملائكة، فاللهم رحمتك وغفرانك!
