بالفيديو.. إرث والي مصر وقف على أهالي السيدة زينب
"داوود باشا"، عرف المصريون هذا الرجل بوجبة الكفتة الشهيرة التي سميت باسمه بسبب حبه لها، ولأنه أول من أدخل تلك الوجبة تركية الأصل إلى مصر، لكن نظرة سويقة اللالا بمنطقة السيدة زينب له مختلفة تمامًا، فقد عرفوه ببحر العلم، الثقافة، التدين، الكرم، الأخلاق الحسنة، التواضع مع العامة، الحلم على الرعايا، فكان داوود باشا النسبة إليهم ساسي عظيم، عاش أجدادهم في كنفه لسنوات عدة.
إنه داوود باشا بن عبد الرحمن، سياسي عثماني، حكم مصر منذ عام 1538م وحتى 1549، أي حوالي 11 عامًا، كان يتبع حدسه دائمًا، فكان مغرمًا بجمع الكتب العربية، الطراز المعماري الإسلامي الذي بني به مسجده، والباحات العثمانية التي بدأ بها منزله، حتي في وصيته اتبع قلبه، وطلب أن يدفن في الولاية التي يحكمها إلى جوار الإمام الليث بن سعد، وكان أول والي عثماني يدفن في مصر.
وفي منتصف سويقة اللالا على الجانب الأيسر، يقع مسجد داوود باشا، يبدأ هذا المسجد ببهوًا كبيرًا، أشبه بالمحراب المجوف، ملون بقطع الرخام، وفوقه نافذة مستديرة تعمل كنافذه كبيرة للتهوية، وفي اتجاه القبلة تتربع مجموعة من النوافذ أعلى الحائط، وفي الخلف سلم خشبي ثانوي، يوصل بالدور العلوي، لكن المسجد لا زال يخضع لعملية الترميم.
ولا يوجد في المسجد مكان للوضوء أو حمامات، فهذه كانت رغبة داوود باشا الذي كان يفضل أن يكون مكان الوضوء بعيدًا عن الصلاة، لذلك قرر بناء زاوية صغيرة في الجهة المقابلة للمسجد، وهيئت لوضوء المصلين.
هذه الممتكات الخاصة بداوود باشا، بقيت كما بناها هو منذ قرون، لكنها لم تكن كل ما يملكه فكان له قصر كبير على بوابة سويقة اللاه، كان معروفًا ببنائه العثماني والأشجار المثمرة، إلا أنه ظل يعاني من الإهمال حتي سقط ضحية زلزال 1992م.
وبعدها بسنوات، صودرت هذه الأرض وبنيت عليها مدرسة داوود باشا المشتركة لتعليم أطفال الحي في المرحلة رياض الأطفال والابتدائية، كما أوضح محمد بلبل، أحد سكان سويقة اللالا، أن هذه المدرسة بنيت لتعليم الأطفال لأن الأهالي كانوا يرفضون خروج أبنائهم للشارع وتعريض حياتهم للخطر، لذلك طلبوا من الحي بناء هذه المدرسة.
واستمرت عملية البناء ثلاث سنوات متواصلة، حسبما قال أحد العاملين بالمدرسة، أن القصر لم يكن له أي آثار سوى الحطام المتناثر في الأرجاء، وحينما طلب الأهالي بناء المدرسة بدأت عملية الإزالة والبناء، بعد تأكد وزارة الأثار من ضياع المنزل واختفاء ملامحه.
وقصَّ محمد بلبل، أقدم أهالي الحي، روايته حول القصر كما قصتها عليه جدته، فكان هذا القصر صرحًا كبيرًا تتساقط من أشجاره ثمار الفاكهة، كان أشهرها شجرة العنب التي كان يحصد السكان ثمارها، وفي الباحة كانت توجد تكعيبة؛ أي مجموعة من المقاعد القطنية الموضوعة على الأرض في شكل مربع، تتوسطها طاولات الفاكهة وأكواب الشاي والقهوة العثمانية، وفي الجهة المقابلة حوض كبير للمياه تشرب منه الخيل، كان هذا هو المكان المفضل للوالي بعد وقت الظهيرة.
أما عن مكان معيشته فقد كان في المبني البعيد، مجهول الملامح بالنسبة للمواطنين، لأنه لم يدخله منهم أحد قط، فحينما كان يدق المواطنين بابه، يستقبله في التكعيبة، حتي كبار الزوار لم يدخلوا هذا المبني، وقيل إنه خسر كل هذا النعيم في غمضة عين على طاولة القمار.
وخصص والي مصر مبني كبيرا على أرض واسعة لاستقبال الضيوف من القادمين من دول أخرى، أسماه بالتكية، كانت تقدم فيها المأكولات والمشروبات للمسافرين والفقراء، إضافة إلى المسكن، فقد كانت الغرف الموجودة بالتكية تكفي لأكثر من 250 شخصا.
وصادرت الأوقاف هذه الأرض، وأجَّرتها لعدد من المواطنين الذين سكنوها مقابل فتات النقود، ولم يكتفوا بهذا، بل دمروا كل ملامحه، وأزاحوا عنه تاريخه العريق، وجعلوه أشبه بالحارة الصغيرة ذات الممرات الضيقة بين مبانيها، حسبما قال سامح أحمد، أحد سكان المنطقة.