الغريزة الشرائية.. والاستهلاك!
شاهدت بعض الطبقات الثرية فى المجتمع المصرى، تمارس ما يسمَّى بـ«الاستهلاك التفاخرى» ظناً منهم أن ذلك مؤشر يفقأ عين المتابعين والمتلصصين، للدلالة على الوجاهة الاجتماعية والتميز الطبقى، وعنواناً للقدرة المالية الفائقة، الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع مؤشرات الحقد فى نفوس الطبقات الدنيا ـ وربما المتوسطة أيضًا ـ على طبقة الأثرياء هذه، ونرى هذا بوضوح فيما رصده وسجلَّه المؤرخون والمتابعون لأحداث بعض الانتفاضات والفورات الشعبية ضد الفقر والقهر والضغوط الاجتماعية والمجتمعية...
... فيما تمثل من الهُتاف ضمن هتاف الجماهير من العامة والبسطاء فى ميادين الثورة: «همَّا بياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الفول دوَّخنا وداخ»!!، وكانت الإشارة بلفظ «هُمَّا» باللفظ الشعبى المصرى الدارج، إشارة عبقرية مستترة إلى تلك الطبقة الميسورة، قبل الطبقة الحاكمة المسيطرة، وللأسف فإن هذا النمط الاستهلاكى أصبح يسود عالم اليوم وفى جميع الدول سواء المتقدمة أوالنامية، وتحول إنسان العصر إلى مجرد أداة أو آلة تسير بخطًى سريعة وحثيثة نحو النهم الاستهلاكي، وهذا يؤدى من جهة أخرى إلى زيادة الجهد العضلى فى مسيرة السعى الدءوب نحو زيادة الدخل بشتى الطرق، كى يحصل بقدرته المادية على شراء ما يشتهى ـ أو لايشتهى ـ من أدوات استهلاكية، لإرضاء النزعات النفسية نحو التملك والمظهريات غير الضرورية فى بعض الأحيان، واعتقادى أن هذا السلوك الاستهلاكى، نتيجة ما تفرضه عليه وعلى إحساسه ومشاعره وتفكيره الآلة الإعلامية الجهنمية، والفنون المتقدمة فى الإعلان، والإيحاء بأن هذا السلوك يعد مقياسًا للمكانة الاجتماعية ومصادر للرفاهية. ويتم ذلك بهدف إثارة غرائز الجمهور لترسيخ «ثقافة الاستهلاك»، بخلق الإبهار عن طريق الصور الملونة للسلع المعروضة لجعلها مرغوبة ومقنعة، والطامة الكبرى أن تقوم تلك الشركات المعلنة ـ وبخبث شديد ـ بالتيسير على المواطنين، بفتح مجال «التقسيط» المريح لزيادة الإغراء للسعى إلى امتلاك المنتجات دون وعى أو تفكير فى العواقب المترتبة على تدهور أحوالهم المعيشية التى ترهقها الأقساط الشهرية أو السنوية.
ولا يخفى على المتابع والراصد لتلك التصرفات، أنهاـ قد ـ تؤدى إلى تداعى بعض المبادىء الأخلاقية السوية، باللجوء إلى تبريرات واهية فى أسلوب وكيفية الحصول على الدخل الذى يحرك الغريزة الشرائية للفرد ويحقق سبُل هذه الشراهة الاستهلاكية، بتطبيق كل الحيل «الميكافيللية» باعتبار أن «الغاية تبرر الوسيلة»، علاوة على ما يستتبع ذلك من أسلوب البذخ الذى يصاحبهويلازمه الكثير من أمراض التخمة والسمنة، ناهيك عن تبديد الثروة القومية فيما لا يعود بالنفع على فائض القيمة بالتعبير الاقتصادى المتعارف عليه. ومن المشاهد التى تثير الشفقة وتجلب الدموع إلى المآقي، وتعطى مؤشرًا صادقًا صادمًا على خطورة هذا الاستهلاك الترفى غير الواعى، وتأثيره السلبى على الاقتصاد القومى والخط العام لسياسة الدولة، بل والمؤثر على ثقافة الإنسان نفسه: إننى رأيت أحد عمال البناء بجلبابه ذى المظهر البسيط، وبيده جهاز تليفون محمول من أحدث الطرُز وأغلاها ثمنًا، ينتعل فى قدميه مايشبه الحذاء المهترىء الذى تطل منه أصابع قدميه! وتعجبت، وسألت نفسى: ألم يكن من الأجدر به أن يستكمل هندامه واهتمامه بمظهره العام، قبل أن يتباهى ويتفاخر بما يحمل بين يديه؟ بلى.. ولكن جاء هذا السلوك المعوج كنتيجة طبيعية لما اعترى المجتمع من تغيرات جذرية سلبية، دهست فى طريقها الكثير من الأعراف التى توافق عليها البشر فى مصر، قبل الغزو بحروب الإعلانات التى حقنت بعض العقول بأفكار دخيلة لا تتناسب مع دول العالم الثالث.. ونحن فى القلب منها!
ويبقى السؤال المعلق الذى يبحث عن إجابات شافية: إلى متى سيظل المجتمع المصرى هو القاسم المشترك الأعظم فى شراء كل ماينتجه الغرب من سلعٍ، تفرضها عليه أجهزة الإعلام والإعلان الملحَّة والمستفزة، وتستولى على كل فائض الأسرة المصرية ـ إن وجد ـ، بل يصل الأمر أن يكون الإنفاق الاستهلاكى أكبر بمراحل من الدخل، وهنا تختل المعادلة، ويصيب الارتباك كل مفاصل المجتمع، للجوء الأفراد إلى بيع كل ماتحت يدهم من مدخرات تتمثل فى الأراضى والعقارات والمشغولات الذهبية، التى تمثل الاحتياطى الاستراتيجى للأسرة، لسهولة تحويلها إلى سيولة نقدية سريعة، ولتكون بمثابة حائط الصد ضد غوائل الزمن من مرض، أو لزواج الأبناء والبنات فى مقتبل الحياة العملية. ويبقى السؤال الأكثر أهمية: ماذا قدمنا نحن للعالم فى مواجهة ما فرضه علينا من منتجات، يمتص بها موارد الدخل القومى؟ ونحن نرى فى كل لحظة سيلاً من المخترعات والابتكارات، فى غزو ممنهج ومنظم يهدف إلى إيقاف مسيرتنا العلمية التقدمية، لنكتفى بالتفاخر بما تركه أجدادنا العظماء من آثار لم نستطع حتى الحفاظ عليها وصيانتها! فكيف توارثنا كل هذه الأعمال التى إن دلت على شىء.. فإنما تدل على فرط نشاط وهمة المصرى القديم واتقاد ذهنه، على النقيض مما نراه الآن ونحن نواجه العالم بكسل وضعف همة وتواكل غير مستحب؟ إننى أدعو إلى صحوة ملحة وحتمية قبل فوات الآوان.