تاريخ الدولة المصرية .. والشرطة
مصر المحروسة التى نعيش فوق ربوعها، هى أول من عرف الطريق إلى صنع كيان الدولة والحكومة المركزية، وقت أن كان العالم الغربى يعيش فى دياجير الظلمة والتخلف وتحكمه العصابات وقطاع الطرق، فكانت حضارة قدماء المصريين التى بدأت على ضفاف النيل، عندما وحَّد الملك مينا مصر العليا والسفلى، وتضمنت تاريخيًا سلسلة من الممالك المستقرة سياسيًا، وبلغت أوج حضارتها فى عصر الدولة الحديثة، ولكن هوجمت مصر فى تلك الفترة من القوى الأجنبية الطامعة...
...فبدأ التفكير فى إنشاء قوة داخلية للحماية حتى يتفرغ الجيش للدفاع عن حدود الدولة والتفرغ لفتوحاته التى علمت العالم الكثيرمن الفنون التى لم يكونوا على دراية بها، فكانت البدايات لما يسمى فى العرف العام آنذاك بـ«رجال الحماية» وهى المعادل لما يعرف اليوم بـ «جهاز الشرطة» التى تضطلع بمهام حماية الجبهة الداخلية من عبث بعض المارقين والخارجين على القانون والعرف، ومن المؤكد أن « جهاز الشرطة» هو الوجه الثانى لعملية الحماية الوطنية، جنبًا إلى جنب مع رجال «القوات المسلحة»، كلٌ فى تخصصاته ومجاله الحيوى.
ومن أجل حماية هذا التراث والتاريخ الممتد عبر العصور، ولحماية أرواح البشر والممتلكات، كان لابد من وجود دروع الوقاية للوطن: تضاريس وبشرًا، فكان الجهاز الشرطى هو المنوط بالقيام بهذا الدور الحيوى، وهو الأمين على مكتسبات المجتمع لأنه من نسيج أبنائه ويحمل كل مقومات الولاء والحب لبنى وطنه، والغيور على حرية الأرض والبشر ويهب كل فردٍ فيه الروح والدم من أجل استمرارية هذه الحرية التى آمن بها منذ دخوله فى هذا السلك الوطنى الشريف، والتصدى لكل العناصر التى لاتؤمن بقدسية القانون وهيبة الدولة، خاصة فى الفترة الأخيرة بعد بعض الانفلات الشاذ ممن يدعون ـ زورًا ـ أنهم حماة الدين والشريعة والعقيدة، ويعملون ضد التوجهات السيادية للدولة وضد منهج الدين الحنيف، والدين منهم برىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وباتوا يتربصون بكل أفراد جهاز الشرطة بالقتل جهارًا نهارًا فى تحد ٍ سافر لسلطة الدولة وضرب كل القوانين الوضعية عرض الحائط، وهؤلاء إما خونة مستأجَرون، أو عميان البصر والبصيرة، وهم كُـثُر ويعيشون ـ للأسف ـ بين ظهرانينا، ولكنهم يدينون بالولاء لمن يغدقون عليهم المال من أعداء الوطن وذيول الدول البترودولارية صاحبة الكيانات حديثة العهد بمعنى الدولة، والتى تنضح نفوسهم بالحقد والضغينة على أرض مهد الحضارات مصر المحروسة التى صنعت تقدمهم بمدرسيها ومهندسيها وأطبائها وعلمائها وعمالها وبنائيها، مذ كانوا بقعًا قاحلة مترامية فى صحراوات التيه والجاهلية والتخلف.
وكان من الطبيعى أن يدين المجتمع بالوفاء المستمر لهذه المنظومة من رجال الشرطة، ويقدم لها الشكر والامتنان فى كل يوم، دون انتظار ليوم ٍ بعينه للاحتفال والاحتفاء بهم، لأنهم أخواتنا أو أبناؤنا أو آباؤنا، فلقد تعودنا منذ عدة سنوات أن نقيم احتفالية بيوم الشرطة فى تاريخ واقعة مذبحة الاسماعيلية فى يناير 1952، التى قام بها ضباط وجنود الاحتلال الإنجليزى آنذاك، حين رفضت قوات الشرطة المصرية تسليم أسلحتها وإخلاء مبنى المحافظة للقوات البريطانية، وأسفر الاشتباك بين الشرطة المصرية والقوات البريطانية عن مقتل 50 شرطيًا مصريًا و80 جريحاً، وأصبح هذا اليوم عيدًا قوميًا لمدينة الإسماعيلية، وكانت منطقة القناة تحت سيطرة قوات الاحتلال بمقتضى اتفاقية 1936 التى كان بمقتضاها أن تنسحب القوات البريطانية إلى القناة وألا يكون لها أى تمثيل داخل القطر المصرى غير فى منطقة القناة المتمثلة فى «الإسماعيلية/السويس/بورسعيد»، فلجأ المصريون، شعبًا ودولة، إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد المحتل فى ثكناته داخل منطقة القناة، وكانت تكبدهم خسائر بشرية ومادية ومعنوية كل يوم ٍ تقريبًا دون كلل أو ملل، وكانت جماعات الفدائيين فى بادىء الأمر لم يكن بينهم تنسيق حتى دخل البوليس المصرى للتنسيق مع الفدائيين، مما أدى إلى حدوث أضرار أكبر فى قوات جنود الاحتلال، وكانت مجموعات الفدائيين مكونة من جميع طوائف الشعب المصرى من فلاحين وعمال وطلبة جامعات وغيرهم. فكانت تلك المواجهة التى كشفت عن صلابة قوات البوليس المصرى فى الدفاع عن حرية وأمن الوطن وكرامته.
وكل الرجاء ألا ننساق وراء من يتخذ من بعض التصرفات السلبية لقلة لا تذكر من رجال الشرطة، ذريعة للهجوم عليها والتنكيل بها، فلكل قاعدة شواذ، وكل مهنة بها البعض ممن يشذ عن السياق العام بتصرفات فردية محضة، لا يجب أن نجعلها تنسحب على الجميع، لنوصم كل مهنة بالخارجين على أصولها فى كل مجال.
هيا لنجعل التكريم لرجال الشرطة فى كل أيام العام، وليس مقصورًا على احتفالية لذكرى معينة فى يوم معين، فرجال الشرطة معرضون فى كل لحظة للخطر، ونحن ننام ملء الجفون وهم يسهرون لحمايتنا وحماية الأرض والعرض ويتساقطون شهداء بفعل الرصاص الغادر ثمناً يدفعونه بخسا عن طيب خاطر فداء للوطن.