ثقافة الجمال..وإعلانات المرشحين!
فى اعتقادى أن الجمال كالفضيلة، يجب أن يكون نابعًا من أعماق الذات، فالجمال له ثقافته الخاصة التى ترتكز على مدى قدرة الإنسان فى تحديد أطـُر ومواطن الجمال فى كل ما تقع عليه عيناه، فيترك لها العنان لتتأمل وتتابع وتكتشف وتسبر أغوار كل ما حولها فيما وهبه الله للبشر...
... فهو نوع من تدريب العين على التعود على المشاهد الجميلة فى كل جنبات الحياة، فتجد الجمال فى السلوكيات العامة وما يخرج على اللسان من ألفاظ ترطب المشاعر والأحاسيس، وتجده فى الشوارع الخالية من وباء الإعلانات المضيئة وغير المضيئة عن كل شىء وأى شىء، والملصقات الممجوجة الصارخة خاصة وقت الصراع على الاستيلاء على كرسى الحصانة بالبرلمان كما هو حادث هذه الأيام فى الشارع المصرى، فتجد تلك الصور القميئة التى تطل عليك بابتسامة صفراء تداعب وتستجدى صوتك الانتخابى الذى تعرف جيدًا أن هذه الابتسامة ليس بها من أى مسحة من جمال الروح الذى تنشده فيمن يكون متحدثُا باسمك تحت قبة هذا البرلمان، ولكنها ابتسامة التملق والتسلق على أكتاف جماهير الناخبين التى سرعان ماتختفى بمجرد نيل المراد وهو حصد أصواتهم لصالح المرشح هذا أو ذاك. وتذهب الانتخابات وتبقى ظلالها تخيم بقبحها مشوهة الشوارع والجدران بل والأشجار بالملصقات والمعلقات، قبح ما بعده قبح!
فالجمال ـ فى رأيى ـ منظومة كبرى تحتوى على كل مظاهر الحياة فى الثقافة والفنون والشعر والموسيقا والدين والاقتصاد والفكر والفلسفة، والإنسان هو الكائن الوحيد الذى يحمل جينات هذه التركيبة الرائعة لممارسة الجمال سلوكًا ووعيًا، بصرف النظر عن ثقافته ومكانته فى درجات سلم المجتمع،وهو فى هذه التلقائية ليس بحاجة إلى قراءة فلسفة علم الجمال عند «كانط» أو غيره من الفلاسفة. والجمال ليس مقصوراً على الماديات الملموسة والمحسوسة برؤى العين من لوحات الطبيعة الساحرة من جبال وبحار وأنهار ونخيل وأشجار وشموس وأقمار، ولكن هناك الجمال الأسمى والأعلى والأرقى وهو الجمال الروحى الشفاف، المتمثل فى الإحساس بانقشاع سحيبات القلق والتوتر والخلاص من مؤثرات الحياة السلبية وكل مايعكر صفاء أنهار الروح الرقراقة التى تكتسح فى سبيلها كل مظاهر القبح التى قد تعترض الرؤية والرؤى، وتمنح للإنسان الصفاء الداخلى مع النفس، وينعكس بالضرورة على الصفاء والنقاء مع الآخرين فى رحلة الحياة.
ومما لاشك فيه أن الفن فى المطلق هو صنو الجمال وقرينه،برغم اختلاف الفن عن الجمال من الناحية الحسِّية الوجدانية، فالفن هو ابتكار من وحى المبدع يخرجه فى أشكال متعددة كاللوحات الفنية والتماثيل والقصائد الشعرية والأعمال الموسيقية،ولكن برغم عدم قدرة الإنسان على لمس النغمات الأثيرية أو الكلمات الشعرية، إلا أنه قادر بالذائقةالجمالية الفطرية بداخله على إدراك مكامن الجمال فى ذاك النغم أو تلك الصورة الشعرية، والحفاظ على هذه الذائقة الفطرية للجمال باستمرار يتطلب الجهود الحثيثة لتنميتها داخل الإنسان عن طريق إدراج مناهج علم الجمال والفنون ضمن المناهج الدراسية فى كل المراحل، والقيام بعمل الدورات التدريبية داخل المصانع والشركات، لتصل ثقافة الجمال والفنون إلى عقول السواعد التى تقف خلف ماكينات الإنتاج، والدراسات العلمية البحثية تثبت أن اليد العاملة المثقفة الواعية بالفنون وآثارها على النفوس، هى صاحبة أعلى معدلات الإنتاج فى كل مصانع العالم، ولعلنا قرأنا وعرفنا أن مزارع الأبقار فى هولندا تعمل على بث الموسيقى أثناء حلب الأبقار لتكون الحصيلة مضاعفة فى انتاج الألبان، وسبحان الله صانع المعجزات وواهب كل هذا الجمال لسعادة الإنسان على وجه البسيطة.
وكل ما يشغلنى وسط هذا الركام الهائل من أشكال القبح فى الشارع المصرى، هو الإصرار على التخلى عن الجماليات فى فن العمارة كما كانت القاهرة القديمة فى الستينيات من القرن الماضى، فنرى الأبراج السكنية الشاهقة المرصوصة كقوالب الطوب الصماء كأنها الزنازين الموجودة فى السجون، ناهيك عن تلال القمامة على كل النواصى والأفاريز التى تحولت إلى مستعمرات للذباب والناموس وكل الحشرات والقوارض التى نراها تهيم فى الشوارع تحت أعين السادة المسئولين عن المحليات، حتى أصبحنا نظن أن ثقافة القبح هى البديل الوحيد الصارخ لثقافة الجمال. والغريب فى الأمر أن برامج التوعية الموجودة فى وسائل الإعلام، ستظل من البرامج التى يزول تأثيرها بمجرد انتهاء بثها على الهواء، لأنها تتم فى قوالب شكلية لا تملك قوة التأثير المطلوب وتعتبر ـ تحصيل حاصل ـ كما يقولون، وملء لفراغات الوقت بين البرامج المختلفة دونما تركيز على التأكد من وصول المعلومة إلى عامة المجتمع، فيكون المردود عكس الهدف الذى تبث من أجله هذه اللحظات الإعلانية . من يقرأون القبحَ فى الجمالِ ضلّوا سواء السبيل ....لم يهبهم الله ذائقةً منه...الذائقة هبة.
ياترى،متى ستنتهى مظاهر القبح وتختفى من حياتنا لنطبق ثقافة الجمال على كل ما يحيط بنا؟ فلا تنسوا أن الله جميل يحب الجمال!