أزهار الشوك فى البحث العلمى
مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟.. هذه الكلمات العظيمة المبنى والمعنى جاءت فى ثنايا إنجيل متـَّى بالإصحاح السادس عشر، وهى لمن يتأملها بإمعانٍ وتروٍ؛ يجد هدفها الأسمى أن تـعلى من قيمة الإنسان بينه وبين صميم نفسه.
قفزت هذه الكلمات إلى ذاكرتى وأنا أشرع فى الكتابة عن السرقات الأدبية والعلمية التى انتشرت وذاعت فى كثير من الأوساط هذه الأيام، وأنا أعرف أنها قضية قديمة مثارة منذ مقارعات شعراء الجاهلية والمحدثين؛ واتهام بعضهم البعض بما يسمى التناص والتلاص واقتباس المضامين والمعانى مع التغيير فى الشكل، وهو ما اعتبره السادة النقاد إهدارًا لقيمة وقامة الشاعر الذى يسطو على المعانى والمضامين والصور لغيره من الشعراء سواء أكانوا قدامى أو محدثين، وقد فطن بعض الشعراء الجاهليين إلى السرقات أو بعض ملامحها فى أشعارهم ومنها قول طرفة بن العبد:
وَلا أُغيــرُ عَلى الأَشعــــارِ أَسرِقُها.. عَنها غَنيتُ وَشَرُّ الناسِ مَن سَرقا
وَإِنَّ أَحسَــنَ بَيــتٍ أَنـتَ قائِـــــــلُهُ.. بَيتٌ يُقـــــــالُ إِذا أَنشَـــدتَهُ صَدَقا
فعوالم الشعر والأدب هى عوالم الإبهار والتجديد والدهشة؛ وخلق المواقف والصور التى لم يتطرق اليها أحد من قبل، إلا ماتصادف من قبيل مايطلق عليه توارد الخواطر والتماس فى بعض المعانى وليس النقل والسطو حرفيًا. وقبل أن نلقى بالاتهامات جزافـًا؛ يجب أن نفرق بين السرقات الأدبية والسرقات الشعرية، فالأولى هى سرقة النثر من النثر، والثانية هى سرقة الشعر من الشعر، فلقد تعارفت الحركة النقدية على عدة مفاهيم لتحديد تلك السقطات، وهذا يتطلب جهدًا شاقًا من متابعى الحركة النقدية، الأمر الذى يتطلب سعة اطلاعهم على أشعار القدامى والمحدثين، حتى يمكنهم الرد بالحجج والأسانيد لإثبات ملامح المحاكاة أو التقليدفى معانى الشعر وألفاظه، والتاريخ العربى ينقل إلينا نماذج من اتهامات بين أبى فراس الحمدانى، وأبى الطيب المتنبى عندما أراد أن يصدر له الحرج فى حضرة سيف الدولة وكوكبة كبيرة من الشعراء، فرد عليهم المتنبى بحصافته قائلاً: «الّشعرُ جادَّةٌ، وربما وقع فيه الحافر على موضع الحافر»، والجادَّة هى الطريق الترابى الذى تسير عليه الدواب والحافر: حافر الدواب، وهو ماسبق وقلنا إنه نوع من توارد الخواطر عند المبدعين.
و قضايا السرقات ومشاكلها هى ما أضعه نصب عينى هنا؛ لخطورة انعكاساتها السلبية على كل من يعمل فى الحقل الأكاديمى بكل الجدية والالتزام النفسى والأخلاقى؛ لأنها تصيب الباحثين باليأس والإحباط واللامبالاة، وتقضى على ملكة البحث العلمى النزيه، وتصدر إلى المجتمع عقليات هشة علميًا تسقط عند أول اختبار حقيقى لملكاتها المهترئة فكريًا؛ علاوة على أنها تضرب موهبة الإبداع الحر الشريف فى مقتل، وتصيب الباحثين الجادين النابهين بالزهد فى إنتاج الجديد من عصارة جهودهم التى تثرى الساحة العلمية؛ وتحفز على التنافس فى الحلبة العلمية بنتاج العقل الواعى المستنير.
ومما لايدع مجالاً للشك أنها قضايا شائكة وتضرب بآثارها السلبية فى بنيان المجتمع ككل؛ وليس فقط على الصرح الأكاديمى الذى تنبت فى جنباته ما أسميه بأزهار الشوك، وضرورة العمل على اجتثاثها من جذورها وعدم التقاعس عن محاربة من يقوم بنشرها فى حقول التربة العلمية، ولا نكتفى بأن ينتهى اكتشاف تلك السرقات إلى حفظ التحقيقات فيها أو توجيه اللوم على أقصى تقدير، ولهم فى ذلك حجة الحفاظ على سمعة الصرح الأكاديمى والسيرة الذاتية للباحث الذى قام بتلك الجريمة الشنعاء، وهذا فى حد ذاته يعتبر تشجيعًا لكل من تسول له نفسه ارتكاب المزيد من سرقة جهود الغير وتدمير أجيال الصروح العلمية جيلاً بعد جيل.
من هذا المنطلق كانت المسئولية التى تقع على كاهل من يتولون إدارة العملية التعليمية من أساتذة وعلماء ثقيلة ومُجهدة، فإنه يتوجب عليهم ومنذ اليوم الأول من الفصول الدراسية إيضاح مفهوم السرقات العلمية وأهمية حقوق الملكية الفكرية، وكيفية الركون الأمثل للمراجع والأسانيد، مع التنبيه إلى أن العقوبات مشددة لمن يمارس تلك السرقات، ويكفى سقوط الفرد بينه وبين ذاته حتى لو لم يتم اكتشاف هذا السطو فى حينه، مع التدقيق بضرورة التعريف بمعنى وقيمة الأمانة العلمية باستخدام الأقواس أو الكتابة المائلة أو حجم الحرف الأصغر، أو ترك مسافة كافية قبلها وبعدها؛ عند عرض مثل هذه النصوص، إلى جانب ضرورة ذكر المصدر ومن أين تم استقاؤها.
وبهذا نكون قد زرعنا فى نفوس طلاب العلم والبحث أن الهدف هو تعلم مهارات التفسير والتحليل وكيفية استخدام المعلومة، وأن المسألة ليست مجرد تجميع المادة والحصول على الدرجة العلمية دون جهد وإعمال للعقل والفكر ومقارعة الحجة بالحجة ببنات أفكارك؛ وليست بالارتكاز على أفكار من سبقوك فى هذا المجال الذى آثرت باختيارك الشخصى أن تكون محل دراستك وأبحاثك فيه أجيالنا أمانة بين أيديكم.. أرشدوهم إلى الطريق المستقيم!