90 سنة.. ولسّه
تسعون عامًا مضت منذ انطلاق البث الرسمي للإذاعة المصرية. تسعون عامًا لم تخذل فيها الإذاعة مستمعيها. تسعون عامًا مر خلالها هذا الكيان العريق بفترات من التحدي وباختبارات ثقة بين الراديو ومستمعيه، ولكنه صمد وقاوم وبقى صوتًا يملأ الدنيا سياسة وفنًا وتثقيفًا وعلمًا ودعمًا للوطن. تسعون عامًا صدحت خلالها عبر أثيره أندى الأصوات تلاوة وطربًا وإلقاء وحديثًا وتمثيلًا.
تسعون عامًا كان الراديو المصري خلالها داعمًا للدولة الوطنية، وسندًا قويًا لمواقفها، ومفسرًا واعيًا لسياساتها، ومقدمًا منصفًا لرؤيتها، ومبرزًا محترفًا لمبدعيها، ومترجمًا أمينًا لمطالب مواطنيها، وضميرًا حيًا ينطق بإبداعات مثقفيها ونداءات عمالها وحكمة فلاحيها، وصوتًا متغنيًا بانتصارات جيشها ووطنية منظومتها الأمنية.
تسعون عامًا كان الراديو خلالها رفيقًا للسهارى، ومرشدًا للحيارى، ودليلًا للسائلين، وعونًا للمعوزين، وبشرى للمتطلعين، وسلوى للحزين ومنصة للموهوبين. تسعون عامًا من الحب والسعادة والسحر والأحلام والأنغام. تسعون عامًا بين التألق والتأثير، ثم الخفوت أمام زحف وسائل أحدث، ثم استعادة لمكانته بعد أن اكتشف الجمهور قيمته وسحره في مقابل تراجع ملحوظ لمنافسيه.
تسعون عامًا من التنقيب عن درر هذا الوطن، وتقديم مبدعيه لجمهور يتذوق الجمال، ويحسن الحكم على الموهوبين بحاسة السمع التي لا يخدعها ماكياج خادع، ولا رقص خليع، ولا صورة براقة. تسعون عامًا من مخاطبة الأشقاء في العالم العربي، والأصدقاء في القارة الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية، دعمًا لحركات التحرر الوطنية. تسعون عامًا من تقديم أندى الأصوات تلاوة وترتيلًا للقرآن الكريم، وابتهالًا لله تعالى بأصوات أحلى المنشدين والمبتهلين.
تسعون عامًا من الآنية في نقل الخبر، وتقديم أرقى التعليقات السياسية وأصدق تحليل للأخبار وعرض الرؤى السياسية المتباينة في عالم يموج بالثورات والحروب والنزاعات والأفكار. تسعون عامًا من عدم الولاء لأي مؤسسة أو حزب سياسي أو تنظيم أو كيان إلا للدولة الوطنية دفاعًا عن مصالحها العليا، ودعمًا لقرارها السياسي، وانحيازًا لمؤسساتها الشرعية ونظامها الدستوري.
تسعون عامًا من تعريف الناس بالرياضات والألعاب المختلفة دون انحياز لفريق أو تعصب لناد، إعلاء لقيم الروح الرياضية على التعصب الأعمى. تسعون عامًا من مناصرة المهمشين والدفاع عن حقوقهم، ونقل صوت أنينهم، والتعبير عن أفراحهم. تسعون عامًا من التكامل بين الراديو وغيره من وسائل الإعلام خدمة للمتلقي المصري، ودعمًا لكل ألوان الإبداع الذي ينتصر للكلمة ويعلي قيم الجمال.
تسعون عامًا من نقل أخبار كل محافظات الوطن شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا في خدمة إذاعية محلية متكاملة تقرب البعيد وتزيد من ترابط كل أقاليم مصر وتنقل صوت الناس، حيث كانوا ليصل صوتهم إلى حيث يريدون.
وفي عيدها التسعين نوجه التحية لجنود الإذاعة المجهولين الذين يعملون في صمت بين الهندسة الإذاعية والأمن والتنسيق والإداريين والخدمات المعاونة، فهؤلاء هم نجوم الظل الذين يبذلون جهدًا خرافيًا في ظل تقادم أجهزة ومحطات إرسال واهتمام أكبر بوسائط أخرى، لكنهم يحرصون على استمرار الرسالة، حفاظًا على صوت مصر، وأملًا في استمراره قويًا نقيًا صداحًا يبلغ الآفاق رغم عوائق هندسية كثيرة، وتحديات إنشائية فرضتها حركة العمران وناطحات السحاب التي تعوق البث.
تسعون عامًا يا سادة وسيبقى كل العاملين في هذا الصرح الوطني العظيم على العهد لتسعين مثلها ومثلها إدراكًا لدورهم، ومحبة لمستمعيهم، ووعيًا بقضايا بلادهم، ودفاعًا عن حقوق مواطنيهم، وعشقًا لبيتهم الإذاعي. تهنئة من القلب لقيادات الراديو المصري، بدءًا برئيسه الأستاذ محمد نوار، مرورًا بكل من وقف خلف ميكروفون الإذاعة، ولكل من تولى فيه منصبًا إداريًا، أو لم يكن له حظ الترقي في سلك الإدارة، لكنه ترك إرثًا إبداعيًا يتحدث عنه ويخلد إبداعه بين قوائم الشرف لمبدعي هذا الوطن.
ومع بداية العقد الأخير في المئوية الأولى للراديو المصري نتمنى ونتوقع أن يعاد النظر برسم رؤية مستقبلية له تتناسب مع ماضيه الوطني المشرف والمهني العريق، وأن ينال ما يستحق من الدعم وأن يجد العاملون فيه مزيدًا من الاهتمام والإمكانيات والإنصاف أسوة بزملائهم في المنصات الإعلامية الأخرى.