دعم نعم، لكن كيف؟
كان من المهم جدًا أن تتضمن تصريحات رئيس الوزراء ما ذكره من أن الحكومة لا تتجه لإلغاء الدعم ولكنها تعمل على معالجة تشوهاته، وتلك تصريحات مطمئنة إلى حد كبير، ولكن يبقى فقط توضيح آليات تلك المعالجة. نعم نحن ندرك أن قيمة الدعم الموجه لرغيف الخبز وحده بلغت 120 مليارًا بعد زيادة أسعار القمح وارتفاع فاتورة الاستيراد مع وصول سعر الدولار لما وصل إليه مؤخرًا، وهو ما استلزم زيادة سعر الرغيف المدعم، غير أن الحكومة لا بد أنها ستفّعل بشدة آلياتها الرقابية بما يوفر للمستحقين رغيف خبز نظيفًا ومطابقًا للمواصفات من حيث الوزن والجودة والقيمة الغذائية. هذه سلعة واحدة نتحدث عنها، فما بالكم بغيرها من السلع وكذلك الخدمات التى تلتزم الدولة بدعمها بهدف تخفيف الأعباء عن المواطنين؟، ولكن السؤال المنطقى يظل هو: كم تتكلف ميزانية الدولة سنويًا من أجل دعم مواطنيها؟ وكم عدد المستفيدين الحقيقيين من منظومة الدعم؟ وما نسبة ما يصل من هذه الميزانية المخصصة لفاتورة الدعم إلى المستحقين له؟
تخصص الدولة نحو 636 مليار جنيه من ميزانيتها هذا العام لبرامج الحماية الاجتماعية وحدها. كل هذه الأموال تضخها الدولة بغرض تحقيق السلم المجتمعى، ولضمان الحد الأدنى من الحياة للمعدمين، والحفاظ على حياة كريمة للطبقة المتوسطة التى هى رمانة ميزان أى مجتمع. ولكن يبقى السؤال: هل تصل هذه الأموال إلى مستحقيها؟ الإجابة الواضحة والمباشرة: قطعًا لا، فالجميع لديه تحفظات حول وصول الدعم لمستحقيه، ولدى كل منا صور يمكن الاستشهاد بها لإثبات ذلك نرد بها على الرافضين لمقترح الدعم النقدى.
هناك مثلًا حالات الوافدين الذين تجاوز عددهم، وفق الإحصاءات الرسمية، تسعة ملايين وافد يستخدمون وسائل النقل العام المدعومة من الدولة كالمواطنين سواء بسواء، ويستفيدون من الوحدات السكنية التى استأجروها بالوقود والغاز والكهرباء والماء بالأسعار المدعومة لصالح المواطنين. كما أن هناك حالات كثيرة من المستفيدين ببرامج الحماية كمعاش التضامن مثلًا، تم التحايل فى أزمنة سابقة لإدراجهم ضمن قوائم المستفيدين رغم عدم استحقاقهم، أو على وجه الدقة يمكننا القول إن هناك من هم أولى منهم بهذه المعاشات.
هنا تأتى أهمية مقترح رئيس الوزراء فى التحول من الدعم العينى إلى الدعم النقدى، شريطة أن توضع معايير واضحة للمستحقين تراعى دخول أرباب الأسر وطبيعة وظائفهم التى تفرض عليهم متطلبات مالية تزيد من الأعباء كونهم موظفين عموميين، حتى نحميهم من أى ضغوطات قد تضطرهم لاستغلال وظائفهم أو الخروج عن مقتضياتها أو اللجوء لعمل إضافى فيما يؤثر سلبًا على أدائهم الوظيفى الرسمى، وحتى يمكنهم توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم أو تدبير مجرد أوليات الحياة الضرورية لأسرهم. ونفس القواعد ينبغى مراعاتها فيما يخص أرباب المعاشات الذين أفنوا أعمارهم خدمة للوطن، وينبغى مراعاة ظروفهم فى سنوات مرضهم وشيخوختهم. أظن أنها مهمة صعبة جدًا تفرض الظروف على الحكومة أن تؤديها، وظنى أنها ستنجح فى تحقيقها وستكون أفضل ما أنجزت حكومة فى تاريخ مصر منذ 1952 إن هى حددت على وجه الدقة المستحقين للدعم ووجهّته لهم نقدًا وبعدالة تراعى قواعد عامة يضعها خبراء مشهود لهم من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع.
تبقى نقطة ثانية لا بد أن توضع فى الحسبان حال التحول من الدعم العينى إلى النقدى، هى عدم ثبات الأسعار. فلو أن الحكومة قررت مبلغًا محددًا للمواطن كدعم نقدى شهرى، ومع تحرك الأسعار وحدوث التضخم سنجد بعد حين أن هذا المبلغ، مهما بلغ، ستنخفض قيمته السوقية ولن يجدى نفعًا. هنا يكون لزامًا أن يضع الخبراء آلية موضوعية لتحريك قيمة الدعم بصورة دورية تأخذ فى الاعتبار معدلات التضخم السنوية. ومن ثم فإنه من الواجب أن تعود لجان الحوار الوطنى للانعقاد بسرعة وخاصة لجان المحورين الاجتماعى والاقتصادى لمناقشة آليات التحول من الدعم العينى إلى الدعم النقدي،و أن تلتزم الحكومة بتنفيذ الرؤية التى سيخرج بها الخبراء.
خلاصة القول إنك لن تجد مواطنًا حقيقيًا منتميًا لهذا الوطن يقف ضد سياسة الدولة نحو ترشيد النفقات، بما فى ذلك فاتورة الدعم. ولكن الترشيد الذى نقبله بل نطالب به، هو توجيه فاتورة الدعم نحو وجهتها الصحيحة ولمستحقيها، وليس الإلغاء كما يمكن للموتورين والمتربصين أن يروجوا. وأنا فى هذا من المؤيدين بشدة لفكرة الدعم النقدى، فتلك هى الآلية المنطقية لتحقيق الاستفادة الحقيقية والمباشرة للمستحقين بعيدًا عن أيدى الوسطاء وسماسرة قوت المواطن.