«النبى» فى قلب المحنة
حوار مؤلم دار بين النبى، صلى الله عليه وسلم، وسادة ثقيف، حين ذهب إليهم يلتمس منهم النصرة والتأييد، كانوا أخوة ثلاثة: عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف، ولو تأملت ما قيل فى هذا الحوار فستجد أن «قريشًا» كانت تمثل موضوعه الرئيسى أكثر من رسالة الإسلام ودعوة التوحيد التى يبشر بها النبى. فسادة ثقيف لم يناقشوا الرسول فى دعوته وتفاصيل الخبر الذى جاءه من السماء، بل كان جل تركيزهم على الكعبة التى تمنح مكة مكانتها بين العرب، يظهر ذلك فيما قاله أحد الثلاثة من أنه سيمزق ثوب الكعبة إن كان الله أرسل محمدًا، وكأن الموضوع هو الكعبة التى حلمت «ثقيف» منذ ما يزيد على ٤٠ عامًا بهدمها على يد أبرهة، وسعت إلى مساعدته فى ذلك، ويحمل الحديث أيضًا إشارة إلى المكانة وحجم الزعامة، وذلك فى تعليق الثانى، والذى قال فيه: «أما وجد الله أحدًا أرسله غيرك؟»، وسياق القول يشير إلى أنه يقصد أن تكون الرسالة فى عظيم من عظماء «ثقيف» الذين لجأ إليهم النبى، تمامًا مثلما قال عظيم مكة، الوليد بن المغيرة: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم»، ويدور تعليق ثالث سادة ثقيف حول «خطورة الشخصية» التى اختارها الله لحمل رسالته. أما النبى، صلى الله عليه وسلم، فقد طلب منهم أن يكتموا خبر مجيئه إليهم حتى لا تعيبه قريش.
يتأكد لك المعنى الذى ذهبت إليه من أن موضوع الحوار كان «قريشًا» وليس الإسلام، تلك الإشارة التى ضمنها «ابن كثير» داخل القصة من أن «امرأة من قريش من بنى جمح كانت عند أحد السادة الثلاث» وحضرت الحوار، ويذكر «ابن كثير» رواية يشير فيها إلى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقى المرأة التى من بنى جمح فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ وكأنه صلى الله عليه وسلم يستنفر فيها «الانتماء القرشى». وينقل «ابن كثير» عن عبدالله بن عبدالرحمن الطائفى عن عبدالرحمن بن خالد بن أبى جبل العدوانى عن أبيه أنه أبصر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغى عندهم النصر، فسمعته يقول والسماء والطارق حتى ختمها، قال فوعيتها فى الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها فى الإسلام، قال فدعتنى ثقيف فقالت: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليها، فقال من معها من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقًا لاتبعناه.
كانت قريش حاضرة أيضًا فى ذلك المشهد المؤلم الذى عاشه النبى حين أغرى سادة ثقيف صبيانهم وعوامهم بالاعتداء عليه، صلى الله عليه وسلم، فقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء. كانت الحجارة تنهال على النبى، صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت موجهة لقريش، وحديث «ابن كثير» عن أن سادة ثقيف الثلاثة لبوا طلب النبى فى كتمان خبر لجوئه إليهم عن قريش، واكتفوا بإغراء صبيانهم وسفائهم به، صلى الله عليه وسلم، يبدو غير مقنع بحال، فقد طار الخبر- بكل تفاصيله- إلى «قريش»، ووصلها قبل أن يعود النبى من الطائف إلى مكة، والدليل على ذلك ما قرره سادة مكة من منع محمد من دخولها من جديد، ولم يستطع دخولها إلا فى جوار أحد كبارها، وهو المطعم بن عدى. وقبل أن يجير «المطعم» نبى الله لجأ، صلى الله عليه وسلم، إلى عدد من كبار القوم بمكة حتى يؤمّنوا مسألة عودته إليها، مثل الأخنس بن شريق، وسهيل بن عمرو، لكنهم رفضوا، ولم يستجب له إلا «المطعم بن عدى»، فأتى إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه «وعددهم ستة أو سبعة» متقلدى السيوف جميعًا، فدخلوا المسجد، وقال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، طُف، فأقبل أبوسفيان إلى مطعم، فقال: أمجير أو تابع؟ قال: لا بل مجير. فجلس معه حتى قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وذهب أبوسفيان إلى مجلسه.
التحرك إلى الطائف وما لقيه النبى، صلى الله عليه وسلم، من ثقيف مثل محنة كبرى، فقد استغل سادة ثقيف وعوامها الموقف للانتقام من قريش فى شخصه الكريم. وقد سألت أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، النبى ذات يوم: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل فلم يجبنى إلى ما أردت. إحساس النبى بوطأة ما حدث كان السر وراء تلك المناجاة الخالدة التى ناجاها لربه، وقال فيها: اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى، إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملّكته أمرى، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك أو تحل علىّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك.