هتاف الصائمين الصامتين
عبر تاريخ البشرية لم يكن الامتناع عن الطعام والشراب وغير ذلك من احتياجات طبيعية تلزم الجسم هو الشكل الوحيد من أشكال الصيام، فقد عرف الإنسان شكلًا آخر منه يتمثل فى الامتناع عن الكلام، ارتبط بالأنبياء والصديقين، كما مارسه أيضًا بشر عاديون كطقس من طقوس العبادة.
امتنع نبى الله «زكريا» عن الكلام لثلاثة أيام متصلة، وشرع يتحدث مع الناس رمزًا «بلغة الإشارة»، وقد ارتبطت هذه الواقعة ببشرى بشرته بها ملائكة الرحمن بغلام سيولد له اسمه «يحيى». تحيّر «زكريا» فى أمره وسأل نفسه: كيف يكون لى غلام وقد طعنت فى السن وامرأتى عاقر لا تنجب؟ يقول الله تعالى على لسان زكريا «قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرًا وقد بلغت من الكبر عتيًا». وعندما طلب النبى من ربه أن يجعل له آية رد عليه الخالق العظيم: «قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا». يذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تمثلت فى صوم زكريا بإرادته الحرة عن الكلام ثلاثة أيام متتالية، لا يكلم من حوله فيها إلا بالإشارة، فى حين يذهب آخرون إلى أن الله عاقبه بتعطيل آلة النطق لديه لثلاثة أيام بسبب حيرته فى قدرة الخالق القادر على كل شىء.
وإذا كان المفسرون يقدمون تأويلين فى أمر امتناع «زكريا» عن الكلام فقد كان الأمر لديهم محسومًا بالنسبة للصدّيقة مريم أم المسيح عليه السلام. فقد أوحى الله إليها حين واجهت قومها بغلامها الوليد وسألوها عن نسبه بأن ترد عليهم قائلة: «فإما ترين من البشر أحدًا فقولى إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا». لم يكن الامتناع عن الكلام قرارها، بل وحى من السماء، وحين ألح قومها عن السؤال بدت الحكمة فى التوجيه الإلهى فنطق الطفل الصغير الراقد فى المهد صبيًا معلنًا عن نبوته وحمله رسالة السماء وكلمة الله تعالى إلى أهل الأرض.
لم يكن الصوم عن الكلام فى الحالتين اللتين حكى عنهما القرآن بإرادة «زكريا» أو الصدّيقة «مريم»، بل كان فى الأرجح عقابًا لزكريا المتحير فى قدرة الخالق، ووحيًا إلى الصديقة مريم لخلق سياق مواتٍ لتأكيد معجزة السماء فى إنطاق الطفل الصغير الذين لم تتشكل عنده بعد مَلَكة الكلام.
لم يمارس النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا الشكل من أشكال الصوم المتمثل فى الامتناع عن الكلام، إلا إذا اعتبرنا انقطاعه إلى العبادة فى غار «حراء» قبل البعثة يشتمل على هذا النوع من الصيام، ضمن ما تشتمل عليه فكرة الانقطاع عن البشر وفضيلة التأمل من صمت عن الكلام. وليس من بين طقوس الصيام فى رمضان الامتناع عن الكلام، بل هناك نهى للصائم عن الصخب، والانفلات من السقوط فى وهدة الخطأ عند مواجهة الكلمات أو الأفعال السيئة، والاكتفاء بالقول: «إنى صائم»، وقد ورد ذلك فى الحديث الشريف الذى يقول: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إنى صائم».
لم يعرف الإسلام إذن فكرة «الامتناع عن الكلام» كشكل من أشكال الصيام، وذلك خلافًا لمعتقدات أخرى. يذكر مصطفى عبدالرحمن صاحب كتاب «فنون رمضان» أن صيام الصمت من أغرب أنواع الصيام، ويتمثل فى الصمت عن الكلام، وهو معروف لدى الشعوب البدائية والمتحضرة على السواء، ولا تزال الديانات البرهمية واليوجا تمارس هذا النوع من الصيام فى مناطق متعددة من الهند. وفى أستراليا يجب على المرأة التى يموت زوجها أن تظل صائمة عن الكلام لمدة طويلة قد تبلغ فى بعض الأحايين عامًا كاملًا.
الصيام عن الكلام حالة استثنائية، والسردية القرآنية التى تُحكى حوله تؤكد أنه نبت ظرف معين، وهو طقس لم يمارسه نبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم، حتى وهو منقطع عن الناس فى غار حراء، فقد تحدث إلى أمين الوحى جبريل حين جاءه فى الغار وقال له: اقرأ.. فرد عليه ما أنا بقارئ.. بعدها عاد إلى زوجه خديجة، رضى الله عنها، وحكى لها ما حدث، ما يدل على أنه لم يكن صائمًا عن الكلام. وفى العديد من المواضع بالقرآن الكريم تجد إشارات إلى قيمة الكلام وأهميته كأداة للتواصل بين البشر، بل وينص على أن «القول الثابت» مظهر من مظاهر الإيمان: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا والآخرة»، وكان نبى الله إبراهيم يدعو الله تعالى بأن يجعل له لسان صدق: «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين».
النوع الوحيد من الكلام الذى أمر الإسلام معتنقيه بالصوم عنه هو الكلام التافه أو الكاذب أو الهادف إلى التضليل، فذلك النوع من الكلام يفضل أن يصوم عنه المسلم. يقول الله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم».. فالقول السديد هو كل قول يسهم فى إصلاح الحياة وتطويرها، والأخذ بيد الإنسان إلى واقع أفضل. وقد وصف الله تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التى يثبت جذرها فى الأرض وتطاول فروعها السماء: «ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون».
صيام الصمت يمسى فضيلة حين يكون امتناعًا عن الخبيث من الكلام.. هنالك فقط يصبح الصمت عبادة، والسكوت من ذهب.