نقاش حول المستقبل
بقدر ما أشاعت صفقة «رأس الحكمة» مناخًا من التفاؤل بقدرة مصر على التغلب على المصاعب الاقتصادية، بقدر ما يمكن أن تشكل نقطة بداية لنقاش صحى حول ملامح المستقبل، وطريقة تفكيرنا فيه، ففى إجابته عن أسئلة الإعلام حول مصير أموال «رأس الحكمة» أعلن رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى عن أن الدولة ستولى اهتمامًا خاصًا بالاستثمار فى الصحة والتعليم، ولا شك أن هذا تصريح هام للغاية، ولكن ينقصه مزيد من الإجراءات والبيانات والتوضيحات من الحكومة حول الإجراءات المتخذة لزيادة الإنفاق على التعليم والصحة، هذه الإجراءات ترد على تصورات سوداوية متطرفة تحاول إقناع الناس بأن الحكومة ستبيع الأراضى لمستثمرين من دول غنية بينما يتحول المصريون إلى شعب من الفقراء يعمل لدى هؤلاء المستثمرين. هذه تصورات غارقة فى الخيال والأوهام اليسارية، ولكن الرد عليها يكون بالإعلان عن مزيد من الاستثمار فى التعليم، لأن المصرى المتعلم سيصبح شريكًا فى إدارة الاستثمارات العالمية على أرضه لا أجيرًا فقيرًا فيها، لا تقنعنى بأن شركة عالمية ستترك مهندسًا مصريًا متخرجًا فى جامعة عريقة عاطلًا عن العمل لتستورد مهندسًا أجنبيًا بثلاثة أضعاف الأجر.. هذا عبث استثمارى.. عندما عاتبوا «إيلون ماسك» على افتتاحه مصنع السيارة «تسلا» فى الصين بدلًا من أمريكا رد عليهم قائلًا: لديهم أفضل مهندسين فى العالم.. هكذا ببساطة.. لذلك فإن توجه الحكومة لتوجيه جزء من عوائد الاستثمارات للتعليم والصحة هو توجه نحو جعل المصرى شريكًا فى تعظيم ثروة بلده من خلال القدرة على الإضافة لرأس المال الأجنبى، هذه الإضافة لا تتحقق إلا من خلال قوة بشرية متعلمة تعمل برواتب عالية وتعيش مستوى حياة مرتفعًا مما يضاعف من إغراءات السوق المصرية للمستثمر.. فمَن ذلك الذى لا يحلم بسوق قوامها عشرات الملايين من القادرين اقتصاديًا على العمل وعلى الاستهلاك أيضًا.. صفقة «رأس الحكمة» تصلح أيضًا مناسبة لاستئناف نقاش كلاسيكى بين أنصار التيار الاشتراكى الذى ما زال موجودًا فى مقالات بعض الباحثين الاقتصاديين، وفى قناعات مراكز مهمة فى المجتمع وفى الدولة. الفكرة أن علينا أن نطبق الحكمة الصينية «لا يهم لون القط.. المهم أن يصطاد الفئران» هذا الشعار شرح به الرئيس الصينى لجوء الصين لنمط التنمية الرأسمالى وتحقيق النمو من خلاله، وهى الدولة التى يحكمها حزب شيوعى عريق، الأمر نفسه ينطبق على مصر، إذا كان الحل «القط الأبيض» أو الاستثمار الأجنبى فأهلًا وسهلًا، وإذا كنا قد جربنا استثمار الدولة أو «القط الأسود» ولم يأكل الفئران فلا ضرر ولا ضرار، والأمر لم يخلُ من منافع وخبرة اكتسبها الجميع.. قرأت مقالًا لباحث اقتصادى شهير يعدد عيوب الاستثمار الأجنبى، ويعكس وجهة نظر يمكن أن تراها فى أى كتاب جامعى يشرح الاشتراكية من تلك الكتب التى ألّفها د. رفعت المحجوب، رحمة الله عليه، وكانت تدرس فى الجامعة. من أشهر حجج معارضى صفقة «رأس الحكمة» مثلًا أن المستثمر الأجنبى سيحول عوائد استثماره بعد بدء عمل المشروع للخارج.. هذه حجة يعتد بها لو لم يكن المشروع سياحيًا، فى المشروع السياحى يأتى السائح ومعه العملات الصعبة لينفقها فى مصر، يحجز الرحلة كلها عبر الإنترنت بعملة بلده أو بالعملة الصعبة، يأتى إلى مصر ليغير الدولارات فى البنك ويحصل على الجنيه المصرى، وبالتالى السياحة مصدر للعملة الصعبة لا العكس، لأن الهدف هو جذب السائح العربى والأجنبى لمصر هو وعملته الصعبة، وبالتالى فالدفع بأن المستثمر سيحول أرباحه للخارج، دفع قديم بعض الشىء وغير منطقى، فضلًا عن أننا شهدنا حالات كثيرة يحول فيها المستثمر المصرى أرباح مشاريعه فى مصر للخارج أيضًا أو يهربها بمعنى أصح، وشهدنا حالات كثيرة يختلس فيها المسئول فى القطاع العام أموال شركته ويهربها للخارج أولًا بأول حتى يكون فى مأمن من العقاب ومصادرة المال الحرام.. وبالتالى فهذا الدفع قديم ولا ينطبق على حالة المشروعات السياحية بالذات. من النقاشات التى أثيرت أيضًا أن حل الأزمة الاقتصادية لا يكون إلا بالصناعة، وأنا من أشد أنصار دعم كل أنواع الصناعات فى مصر، ولكن من قال إن السياحة تتعارض مع الصناعة؟ ومؤخرًا جاء الإيطاليون لبناء مجمع صناعى ضخم على أرض مصر، وقبلهم جاء الأتراك بنصف مليار دولار استثمارات مباشرة فى الصناعة، والدولة نفسها تضع استثمارات ضخمة فى مصانع الأسمدة وغيرها من الصناعات الاستراتيجية.. وبالتالى الإشارة لأهمية الصناعة لا تعنى التقليل من مشروع مثل «رأس الحكمة».. فى كل الأحوال هذا نقاش صحى إذا كان هدفه الصالح العام لا تصفية حسابات السياسة باسم الاقتصاد.. والله أعلى وأعلم.