الحرب «القذرة»
التفكير العلمى هو الذى يقوم على التجريب واختبار الحقائق قبل الإيمان بها، أنا مثلًا حاولت اتباع المنهج العلمى مع كثير من الأفكار والأخبار قبل الاقتناع بصحتها، من هذه الأفكار فكرة «حروب الجيل الرابع» أو استخدام الشائعات فى هز استقرار المجتمعات على يد عملاء ينتمون لنفس المجتمعات المراد هدمها.. لا أنكر أننى تركت مسافة بينى وبين الفكرة حين استمعت لها لأول مرة.. لكن الأيام أثبتت أن استخدام الشائعات لهز الاستقرار حقيقة راسخة.. أول ما يلفت نظرك أن مَن يستخدمون أسلحة الجيل الرابع هم أول من ينكر المصطلح.. لكن هذا طبيعى جدًا.. الدول التى تملك سلاحًا نوويًا تنكر أن لديها سلاحًا نوويًا.. من يستخدم السلاح الكيماوى ينكر أنه استخدم السلاح الكيماوى.. اللص غالبًا ينكر أنه لص.. السيدة سيئة السمعة عادة تدّعى أنها مثال للشرف والسمعة الحسنة.. وهكذا.. لذلك من الطبيعى أن ينكر العملاء المستخدمون فى هذه الحرب القذرة وجودها من الأساس حتى نستقبل ما يقولونه على أنه «كلام طبيعى» صادر من مواطن يحب بلده، ويصادف أنه يقيم خارجه، ويتلقى دعمًا ماليًا من جهات ما لا نعرفها، ويعيش تحت حماية جهات ما لا نعرفها، ويعمل لمصلحة جهات ما لا نعرفها.. أيًا كان الأمر.. إذا كان الخبراء قد أطلقوا فى الماضى على هذا النوع من الحروب «حروب الجيل الرابع» فأنا أُفضل أن أسميها «الحرب القذرة»، وهى كذلك، لأنها تقوم على الكذب، وعلى الخداع، وعلى تضليل المواطنين، واللعب بمشاعر البسطاء.. منذ أسبوعين فقط، وقبل الإعلان عن صفقة رأس الحكمة، وبينما الجميع فى ضيق حقيقى من عدم استقرار سعر الصرف وانعكاس ذلك على الأسعار.. بدأت تظهر فيديوهات قصيرة لممثلين يفترض أنهم مواطنون يشكون من الغلاء، أى متخصص يعرف أن هذه الفيديوهات مفبركة تمامًا، وإن كان مخرجها متميزًا لأنه يصل بالممثلين الذين يتحدثون فيها لمستوى عالٍ من الأداء، من المستحيل أن أصدق أن مواطنًا يتحدث للكاميرا للمرة الأولى بلا خطأ واحد ودون توقف ودون اهتزاز فى نبرة الصوت إلا إذا كان وراء كاميرا الموبايل مخرج قدير أعاد التصوير عدة مرات حتى حصل على النتيجة المطلوبة، وقبل ذلك كله هناك كاتب كتب نصًا قصيرًا مؤثرًا.. والمدهش أن كل هذه الفيديوهات كانت تعرض عبر منصة إخوانية واحدة يملكها الإرهابيون فى الخارج.. صفقة رأس الحكمة جعلت هذه الفيديوهات غير مناسبة للوقت، خاصة أن مناخًا من التفاؤل قد شاع وبدأ الناس فى الاطمئنان.. لذلك تم الانتقال لسلاح قذر آخر وهو الشائعات.. أحقر شائعة سمعتها أن مصر تتقاضى مبالغ مالية مقابل دخول أهل غزة لها.. هذه شائعة حقيرة لأنها كاذبة أولًا، ولأنها تقلب الحقيقة ثانيًا، ولأنها تحاول تشويه صورة مصر فى أهم ملامح عروبتها ودورها العربى؛ وهو عطاؤها لقضية فلسطين التى أعطتها مصر على مدى خمسة وسبعين عامًا وأكثر ما لم يعطه أحد آخر فى العالم. من ملامح قذارة هذه الشائعة أيضًا أنها تلوث صورة مصر لتحقيق أهداف شخصية وشفاء نزعة غيرة وكراهية ضد بعض رجال العمل الوطنى والاقتصادى الذين كانوا فرسانًا فى معارك مصر ضد الإرهاب فى السنوات الأخيرة.. أحقر المعارك إذن هى التى تستند إلى الكذب، والافتراء، ولَىّ عنق الحقائق.. قبل أن أكتب المقال بدقائق طالعت شائعة جديدة تقول إن مصر «ستعير آثارها لدولة عربية لمدة عامين»، لست فى حاجة للرجوع إلى أى مصدر كى أعرف أن هذا خبر كاذب، ألّفه جهلة، ونسبوه لقناة فضائية عُرفت بعدائها لمصر فى سالف الأيام، لا يوجد شىء اسمه «إعارة» آثار لدينا فى مصر، ولكن توجد معارض خارجية للآثار كانت تزور مدن أوروبا وأمريكا منذ التسعينيات، ولم أسمع أن هناك معارض جديدة للآثار منذ فترة.. ما أعرفه أن الشائعات لن تتركنا فى حالنا أبدًا، لأنها سلاح الضعيف، وأعداء مصر غاية فى الضعف، إذا تأخر الاستثمار الأجنبى سيقول الكاذبون إن العالم يقاطعنا، وإذا جاء سيقول المفترون إن الحكومة تبيع مصر، وإذا أدخلنا أهل غزة للعلاج سيقول الكذبة إن هذا مقابل نقود، وإذا منعناهم سيقول الخونة إننا نترك أهلنا يموتون..! معضلة كبيرة.. لا حل لها سوى أن نتجاهل هؤلاء ونمضى فى طريق العمل والأمل حتى النهاية.. هذا هو ما يجعل هؤلاء يموتون بغيظهم.. وسيموتون فعلًا قريبًا جدًا إن لم يكن من الغيظ فمن اليأس.