رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خماسية الأستاذ.. د. محمود خليل: أبحث عن «التفسير الشعبى» للتاريخ.. والمصريون يكررون أخطاءهم

د. محمود خليل
د. محمود خليل

ما أصعب أن تجلس إلى أستاذك محاورًا!

تتلمذت على يديه قبل ١٦ عامًا من الآن.. وكان سؤالى الأهم حين التقيته: هل يظننى فلحت؟!

اعتدت أن أجلس إليه مستمعًا.. لا يحتاج إلى أسئلتى ليعطينى إجابات أبحث عنها.. يكفى أن تنصت لتعرف كل ما تريد.

لكننى هذه المرة كان يجب أن أسأل ليتحدث.

يحمل الدكتور محمود خليل، أستاذ الإعلام فى جامعة القاهرة، على كتفيه مشروعًا بحثيًا كبيرًا، يعمل عليه منذ سنوات طويلة.. مشروع ارتدى فيه ثوب المؤرخ - إذا جاز الوصف - وابتعد فيه عن ثوب الإعلام قليلًا.

أما العنوان العريض للمشروع فهو «التفسير الشعبى للتاريخ».

إنه يبحث عن التاريخ الحقيقى.. «تاريخ الناس».. هؤلاء الذين يفعل بهم التاريخ أفعاله وخطاياه ثم ينساهم حين تدون الحوادث.

والتاريخ هنا تاريخ مصر وأهلها وناسها.. والإسلام وظروفه وحوادثه.

وفى إطار هذا المشروع أثرى الدكتور محمود خليل المكتبة المصرية والعربية بـ«رباعية»؛ كتابين عن الإسلام وهما: «السيف والسلطان.. قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين» و«تاريخ الغضب.. من السيوف العمياء إلى خناجر الحشاشين»، واثنين آخرين عن التاريخ المصرى «المنسى» وهما: «الأدهمية..  قراءة فى التاريخ الشعبى للمصريين» و«حكاوى المصريين».

وبالتوازى صدر له كتاب خامس بديع عن مبدع من مبدعينا الكبار وهو الشيخ محمد رفعت تحت عنوان «كروان التلاوة.. تأملات فى حياة الشيخ محمد رفعت».

هذه «الخماسية» كانت محور حديثى مع الدكتور محمود.. وما قاله يستحق أن تتوقف أمامه.

تعالى معى لنقرأ ماذا قال هذا الأستاذ الجليل.

■ ما هو الإطار العام أو الفلسفة التى تجمع كتاباتك وتحديدًا رباعية «السيف والسلطان» و«تاريخ الغضب» و«الأدهمية» و«حكاوى المصريين»؟ 

- الإطار العام الذى يجمع بين هذه الرباعية هو خط البحث عن نافذة جديدة نطل منها على التاريخ، تتمثل فى «النافذة الشعبية». فالكثير من الكتب والكتابات التى أرّخت لحياة المسلمين الأوائل، أو لحياة المصريين فى الحقبتين الحديثة والمعاصرة، ركزت بصورة أساسية على تاريخ الكبار الجالسين على مقاعد الحكم، أو المتحلقين حول الحكام، أو النجوم فى قصور السلاطين، وقليلًا ما تطرقت إلى تاريخ الفرد العادى، أو البسطاء من الناس، وتفاعلاتهم مع الأحداث، ونظرتهم لخطوات الحكام وأفعالهم. من هذا المنطلق يركز كتاب «السيف والسلطان» وكتاب «تاريخ الغضب» على الكثير من المهمشات الشعبية فى تاريخ المسلمين خلال فترة حكم الخلفاء الراشدين، ثم الأمويين، ثم العباسيين. ويركز كل من كتاب «الأدهمية» وكتاب «حكاوى المصريين» على تفاعلات الإنسان المصرى البسيط مع الأحداث والظروف والشخوص التى ظهرت على مسرح الحياة، بدءًا من عصر محمد على حتى العقد الأول من الألفية الجديدة، وتناول العادات والتقاليد الشعبية التى ما زالت تسرى فى التركيبة الثقافية حتى اللحظة وتجد جذورها فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

■ القارئ للرباعية يلحظ ما يمكن تسميته بالتفسير الشعبى للتاريخ وهى زاوية تبرز دائمًا فيما تكتبونه.. هل هذه ملاحظة دقيقة؟ 

- نعم.. هذه الملاحظة فى محلها تمامًا.. فأنا أحاول تقديم قراءة للتاريخ الشعبى ولتفاعلات الناس مع منظومة الحكم التى سادت فى مراحل مختلفة من تاريخنا، ومن الملفت أن الرواية الشعبية أحيانًا ما كانت تختلف كل الاختلاف عن الرواية الرسمية. على سبيل المثال الرواية الرسمية للتاريخ تقول إن تجربة حكم عباس الأول «نجل طوسون بن محمد على» كانت سيئة، ومثلت ردة على تجربة التحديث التى تبناها جده محمد على، فى حين تقول الرواية الشعبية إن المصريين احتفوا بحكمه أشد الاحتفاء، رغم ما ساده من تراجع عن مشروعات التحديث، وكانوا يرون فى تنظيم الحياة الذى حاول محمد على فرضه عليهم نوعًا من الاستبداد، والرغبة فى استنزاف جيوبهم لصالح مشروعه الذى تصب عوائده فى جيبه الخاص، كما أنكروا على محمد على أسلوب «السخرة» الذى كان يتعامل به معهم من أجل تحقيق أهدافه فى بناء إمبراطورية منافسة للإمبراطورية العثمانية.. الأمر نفسه ينطبق على الكثير من الأحداث الأخرى ذات الصلة بالتاريخ الإسلامى. فالرواية الرسمية المتعلقة بحروب الردة التى شهدتها حقبة أبى بكر الصديق تقول إنها مثلت حربًا ضد «الردة عن الدين»، فى حين أن الرواية الشعبية تقول إنها كانت حربًا ضد «المرتدين عن الدولة»، التى أرادها الصديق أبوبكر.

■ فى «السيف والسلطان».. ما القراءة الجديدة التى تقدمونها عن قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين؟

- فى كتاب السيف والسلطان كان هناك تركيز على رواية المسكوت عنه فى تفاعل المسلمين العاديين مع فترة حكم الخلفاء الراشدين، بدءًا من انتقال السلطة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر الصديق وكيف لعبت الصراعات التحتية ما بين الأوس والخزرج دورها فى ترجيح كفة أبى بكر والإطاحة بسعد بن عبادة «الأنصارى» الذى طمح إلى الخلافة والمعارض الشرس لأبى بكر ثم عمر بن الخطاب، والدور الذى لعبه المهمشون من أسرى الفرس بعد معركة القادسية وما تعرضوا له من سحق ومطاردة، ودعم أهل البيت النبوى لهم، ودورهم فى اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب، والدور الذى لعبه الغضب الشعبى على أداء السلطة فى عصر عثمان فى هز كيان الدولة واغتيال الخليفة، وكيف لعبت إحدى الفاتنات دورًا فى اغتيال الخليفة على بن أبى طالب، وكيف تدخلت الصراعات التحتية داخل القصور الأموية فى توجيه دفة الحكم خلال المراحل المختلفة، خصوصًا الصراعات التى أدارتها سيدات القصور ومغنياتها وغوانيها.

■ يرتبط الصراع على الحكم بحركات التمرد والفعل الغاضب.. وهذا موضوع «تاريخ الغضب».. هل يمكن أن تضع القارئ فى صورة عامة للغضب فى تاريخ المسلمين؟ 

- مفهوم الغضب - من وجهة نظرى- يعنى تغييب السياسة، والاعتماد على العنف فى الجلوس على منصات الحكم، وسيطرة ما يسمى «الحاكم المتغلب بالسيف». فى كتاب «تاريخ الغضب» أشرح الظروف التى صاحبت ظهور الوجه المذهبى «الشيعى/ السنى» للصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين، وكيف ارتضى المصطفون فى صفوف الحكم، وكذلك فى صفوف المعارضة، بمعادلة تغييب السياسة والاحتكام إلى السيوف والخناجر فى الوصول إلى الحكم، ويفرد الكتاب مساحة معتبرة للحديث عن جماعة الحشاشين، التى أسسها الحسن الصباح، نظرًا للدور الذى لعبته فى إفراز العديد من المفاهيم الخطيرة التى ما زالت تتسكع فى عالمنا الإسلامى حتى الآن، فى مواجهة السلطة والمجتمع، بالإضافة إلى الازدواجية فى النظر إليها من جانب الشعوب من ناحية والحكام من ناحية أخرى، حيث احتفت الشعوب ببعض رموز الحشاشين الذين ساهموا فى مواجهة الصليبيين، مثل البطل الشعبى «جمال الدين شيحة»، فى حين نظر الحكام إلى أعضاء هذه الجماعة بعين الريبة نظرًا لتاريخهم الخطير فى اغتيال بعض رموز الحكم على مستوى العالم الإسلامى، بما فى ذلك محاولتهم اغتيال صلاح الدين الأيوبى.

■ بدراستكم ورؤيتكم المقدمة للصراع والغضب فى تاريخنا الإسلامى.. هل لاحظت أوجه تشابه بين ما جرى فى عهد المسلمين الأوائل- لو صح التعبير- ومسلمى العصر الحديث؟

- العديد من المفاهيم، والكثير من الممارسات التى نشهدها فى عالمنا الإسلامى حاليًا، تجد جذورها فى تاريخنا. 

على سبيل المثال الكثير من الأفكار والمفاهيم التى نشأت حولها جماعة الحشاشين تجدها حاضرة فى أفكار ومفاهيم الجماعات الدينية المتشددة فى الوقت الحالى، بدءًا من تكفير الواقع ومفاصلته والتبرؤ منه والولاء لأمير الجماعة، واستخدام العنف فى مواجهة السلطة والمجتمع، وكل ما نسمعه عن فرق الاغتيال السياسى والذئاب المنفردة، تجد جذورها أيضًا فى تجارب التاريخ. 

عبدالرحمن بن ملجم، على سبيل المثال، أدى كذئب منفرد وهو يغتال عليًا بن أبى طالب، والأمر نفسه ينطبق على أبى لؤلؤة المجوسى وهو يغتال عمر بن الخطاب وهكذا. أيضًا ما زالت السلطة فى العالم الإسلامى- كما تعودت فى الماضى- تُقدم نفسها كممثل شرعى وحيد للدين، وللدنيا أيضًا، وما زالت بعيدة عن الاحتكام إلى معادلات السياسة والرضاء العام فى وجودها أو استمرارها فى الحكم.

■ من قراءة تاريخ المسلمين لقراءة تاريخ المصريين فى «الأدهمية والحكاوى».. هل تاريخنا كمصريين يعيد نفسه دائمًا.. أو بشكل أدق هل تتكرر أحداث تاريخنا؟

- التاريخ لا يعيد نفسه، الناس هى التى تميل إلى تكرار أخطائها وتتمسك بعاداتها وتقاليدها، مهما طال عليها الأمد. والمصريون ليسوا بدعًا بين البشر، بل مثلهم مثل كل البشر، يميلون إلى إعادة إنتاج ماضيهم فى نسخ جديدة تسيطر على حاضرهم، على سبيل المثال تاريخ الكيوف فى مصر، بدءًا من الدخان وحتى الحشيش والأفيون، ما زال محكومًا بالعديد من الإشكاليات والأزمات القديمة المتجددة، مثل إشكالية «الحلال والحرام»، وأزمة أسعار الكيوف التى ترتفع باستمرار، وإشكالية اختفاء الدخان فى الأسواق ووجود سوق سوداء له. والأمر نفسه ينطبق على العديد من الأزمات المعيشية التى تتكرر صورها ومشاهداتها ما بين الماضى والحاضر، مثل قيام التجار بإخفاء السلع من أجل رفع أسعارها، وانخفاض القيمة الشرائية للعملة، وغير ذلك. ويتواصل خط الماضى مع الحاضر حتى فى قاموس الشتائم والأمثال السائدة وغير ذلك.

■ وما سر «الأدهمية»؟ 

- من شرفة الشعب، يطل كتاب «الأدهمية» على تاريخنا الحديث، بدءًا من عصر محمد على، فيحاول أن يكشف الكيفية التى تفاعل بها المصريون العاديون مع تجربة التحديث التى تبناها محمد على، وعملية التعثر التى تعرضت لها فى عهد عباس حلمى الأول، ثم الوالى سعيد، ومحاولة استعادتها فى عصر الخديو إسماعيل، ويمتد الخط بعد ذلك من حاكم إلى حاكم، ومن فترة تاريخية إلى أخرى، حتى يصل إلى عصر ما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢.

فكرة الكتاب تم التقاطها من حكاية «أدهم»، وهى الحكاية الأولى فى «رواية أولاد» حارتنا للراحل الرائع «نجيب محفوظ»، والتى تنتهى بنزول أدهم إلى الخلاء، بعيدًا عن البيت الكبير ومباهجه وأسباب الراحة السائدة فيه، ومددت الخط على استقامته وتخيلت أن أدهم نزل إلى الشارع فى عصر محمد على، وأصبح يمثل «رجل الشارع فى مصر»، وشرع فى بناء أدهميته الخاصة، وشرحت- بشكل موثق- كيف كان ينظر إلى المشروعات التى أنشأها محمد على، وكيف استهان ببعضها، وكيف احتفى ببعضها الآخر، وكيف أحب عباس حلمى الأول على عكس ما ترويه كتب التاريخ، وكيف ظل يهتف باسم عباس الثانى: «الله حى.. عباس جاى»، حتى بعد أن ترك الحكم، وكيف أن المعادلة التى ظلت تحكمه طيلة تجربته هى معادلة «القوت والهدوء». فذلك أكثر ما حرص عليه أبناء «الأدهمية». 

■ فى قراءاتك الجديدة للتاريخ الشعبى المصرى.. أى مصادر اعتمدت؟

- اعتمدت على العديد من المصادر فى جمع المادة التى اعتمدت عليها فى تقديم «الرواية الشعبية» للتاريخ المصرى، أولها بالطبع: الكتب والوثائق التاريخية التى قدم بعضها شذرات تحكى الأوضاع الاجتماعية والشعبية التى سادت خلال حقب التاريخ المختلفة، وثانيها: السير الذاتية التى أرخ فيها كبار أدبائنا ومفكرينا لتجاربهم وتفاعلاتهم مع الحياة، وكيف حكوا فيها عن المكان والإنسان، وتفاعل العاديين والبسطاء مع الأحداث التى عاصروها، وثالثها: الروايات الأدبية التى قدمت صورًا للتاريخ الاجتماعى والشعبى للمصريين، مثل روايات أديب نوبل «نجيب محفوظ»، ورابعها: حكايات الجدات والأمهات والآباء، والتى تم تناقلها من جيل إلى جيل، حيث أخضعتها للفحص والتحليل العقلانى، وخامسها: الأمثال الشعبية والتفتيش عن الأحداث والحكايات والسياقات التى أحاطت بظهورها وتداولها على اللسان العام، يضاف إلى ذلك مشاهداتى الذاتية خصوصًا خلال الفترة التى تبدأ من أواخر الستينيات- من القرن الماضى- وما بعدها.

■ وهل يختلف التاريخ الشعبى عما يمكن وصفه بالتاريخ الرسمى؟.. وأيهما أقرب لما جرى؟.. أم أنهما يكملان رسم الصورة؟

- ظنى أن الرواية الشعبية للتاريخ تتكامل مع الرواية الرسمية، فنحن بحاجة إلى كليهما حتى تتوازن رؤيتنا لأحداث الماضى، وفهم تأثيراتها فى تفاعلات الحاضر، فالقيمة الكبرى للتاريخ -فى تقديرى- تتحدد فيما يوفره لنا من مفاهيم وقوانين تحكم حركة المجتمع فى الماضى والحاضر، وبذلك يكون التاريخ إحدى الأدوات التى نفهم بها هويتنا الاجتماعية وأساليب تفكيرنا وطرق تفاعلنا مع الأحداث والأشخاص، ولن يتأتى لنا ذلك إلا إذا اكترثنا للبشر العاديين، كما نعتبر بالكبار الرسميين. 

إهمال المجموع أو الجمهور آفة من أخطر آفات حياتنا على خطى التاريخ والجغرافيا، والماضى والحاضر، والسياسة والاقتصاد، والتعليم والثقافة.. وقِس على ذلك. 

■ إذا انتقلنا لإصداركم الخامس عن «الكروان» الشيخ محمد رفعت.. لماذا رفعت من رواد دولة التلاوة؟

- على المستوى الشخصى أنا من أشد المحبين للاستماع إلى القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، وأظن أن كثيرين من أهل بلدى يشاركوننى هذا الحب لصوت الشيخ العذب الرائق الذى يسبح للخالق العظيم، محبتى للصوت الاستثنائى الذى امتلكه الشيخ محمد رفعت كثيرًا ما دفعتنى للبحث عن أى معلومات متاحة، أستطيع أن أفهم من خلالها هذا الإنسان الذى ينطق صوته بالإيمان والحنان والحزن النبيل، وكنت أتعجب من عدم وجود كتاب كامل عنه، بل صفحات تتناثر هنا وهناك فى عدد من الكتابات الجميلة التى سطرها كتاب مصريون أجلاء حول رواد دولة تلاوة القرآن الكريم فى مصر، وجدت أن الشيخ يستحق كتابًا مستقلًا عنه، وأظن أن من يقرأ الكتاب سيوافقنى الرأى.

فسيرة الشيخ محمد رفعت تضعنا أمام ولى من أولياء الله الصالحين، وليس أمام مجرد قارئ للذكر الحكيم، سيرة رجل ملك عليه القرآن الكريم أمره، وأصبح جوهر حياته، منذ أن كان طفلًا، وحتى صعدت روحه إلى بارئها، رجل عاش يؤمن بأن الله أعزه بالقرآن وأكرمه به، فصان كرامته، ودافع عنها بشموخ أمام «كبار وقته»، مثل سعيد باشا لطفى، أول رئيس للإذاعة المصرية، وعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، بالإضافة بعض رموز الاحتلال الإنجليزى، أكشف فى الكتاب أيضًا موقفه من بعض نجوم تلاوة القرآن الكريم فى عصره، مثل الشيخ على محمود، والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى والشيخ أحمد ندا، وغيرهم، ورأيه فيهم، وتقييمه لصوته المؤمن الخلاب فى مقابلهم، كما يحكى الكتاب سنوات النهاية فى حياة الشيخ محمد رفعت، والمرض الذى عانى منه، وتنكر مسئولى الإذاعة المصرية- فى ذلك الوقت- له، وأحكى حكاية تسجيلاته، وأكشف المسئول عن جريمة عدم وجود تسجيلات إذاعية للشيخ رفعت سوى تسجيلين وحيدين، ويمتد خط الحكاية لكروان تلاوة القرآن الكريم إلى ما بعد وفاته، والتسجيلات التى لم نسمعها للشيخ محمد رفعت من قبل، والتى ستخرج إلى النور قريبًا بإذن الله.

■ من تأملاتك فى حياته.. ما سر عبقرية الشيخ محمد رفعت التى وضعته حتى يومنا على قمة دولة التلاوة؟

- لم يكن الشيخ رفعت يقرأ القرآن بحنجرته الذهبية، بل بقلبه المؤمن أيضًا، ولم يكن يرتل آياته كحروف، بل كمعان.. وذلك سر عبقريته.. فقد بدأ رحلته فى دولة التلاوة بدراسة مستفيضة لتفاسير القرآن الكريم، وفهم معنى كل آية من آيات الذكر الحكيم، وتعلم القراءات السبع، واستوعب ثراء المعانى الذى تنطوى عليه، ثم انطلق صوته يتلو كلام الله بفهم ووعى كامل وضعنا أمام رجل يعتمد على «نظرية التلاوة بالمعنى». 

تجربة الشيخ محمد رفعت تضعنا أمام «حالة قرآنية فريدة»، بالمعنى الكامل لهذه العبارة. فقد قدّر الخالق العظيم للشيخ أن يعيش «عبدًا قرآنيًا»، يستغرق منذ صباه فى آيات الذكر الحكيم، يتأمل معانيها، ويسكن كل معنى منها ذرات عقله ووجدانه، يذوب فى إشاراتها لأحوال الإنسان فى الدنيا والآخرة، فتصبح بالنسبة له معراجًا تصعد عليه روحه الطيبة المؤمنة إلى السماوات العلا، وتسبح فى أنوار قدسية، وهى تلهج بالآيات الكريمة، لتطير إلى تلاواته ومعها قلوب وعقول المستمعين. أجاد الشيخ العيش فى معنى الحرف القرآنى، فتدفق القرآن من قلبه إلى لسانه، شلالًا من المعانى الجليلة، التى ما إن تصافح أذن المستمع، حتى تلامس قلبه، وتستقر بين حناياه.. رضى الله عنه وأرضاه.