إقدام هنا وخوف هناك
على تخوم مدينة رفح تتدافع إرادتان.. الإرادة المصرية من جهة، والوحشية الإسرائيلية من جهة أخرى.. حسب التقارير المتواترة، فإن العسكرية المصرية تكشر عن أنيابها منذ بدء العدوان على غزة، تم رفع درجة الاستعداد، وإجراء مشاريع تدريبية وتفاتيش حرب مستمرة، وحملت إحدى المناورات اسم «جالوت» العدو التاريخى لـ«طالوت» البطل القومى العبرى وفق الروايات التاريخية اليهودية.. فى الأيام الأخيرة حذرت مصر من اجتياح برى إسرائيلى لرفح، وهددت باعتبار معاهدة السلام كأن لم تكن، وبسحب السفير المصرى من إسرائيل.. على عكس موقف العسكرية المصرية المترجم لرؤية الدولة ورئيسها.. تراجعت العسكرية الإسرائيلية خطوات للخلف.. أفادت تقارير صحفية بأن الجيش الإسرائيلى حذر «بنيامين نتنياهو» من اجتياح رفح، لأن ذلك يقود لمواجهة -غير مرغوبة- مع الجيش المصرى.. التحليلات العسكرية الإسرائيلية للموقف تكاد كلها تكون تكرارًا لبعضها البعض.. كلها تحذر من قوة الجيش المصرى بشكل عام، ومن الموقف فى سيناء بشكل خاص، تتحدث كلها عن سيناء فتقول إنها شهدت تحولًا جذريًا خلال آخر عشر سنوات، ولم تعد بأى حال منزوعة السلاح.. يتحدث الإسرائيليون عن الطرق والأنفاق التى ربطت سيناء بالوادى، وجعلت تدفق مئات الآلاف من الجنود للحدود أمرًا لا يستغرق سوى ساعات قليلة.. يتحدثون أيضًا عن مطارات حديثة فى سيناء، وعن طائرات ترابط على بُعد دقائق من إسرائيل.. على عكس ما يبدو فى الظاهر فقد أخذ نتنياهو تحذيرات مصر وتحذيرات جيشه من الصدام مع مصر فى الاعتبار.. لم يتم اجتياح برى لرفح، ولكن غارات ضد أهداف محددة تدعى إسرائيل أنها تابعة لحماس، أو أنها نقاط تركز للرهائن الذين تم اختطافهم يوم سبعة أكتوبر.. مهما بلغت درجة الغضب من وحشية إسرائيل فإن تحرير الرهائن سيبدو مطلبًا عادلًا أمام العالم وكأنه «قميص عثمان» ترفعه إسرائيل، أو حق يراد به باطل، أو يتخذ ذريعة للباطل.. من جهة ثانية تراقب مصر نفاد مخزون التفاهم بين إدارة جو بايدن وبنيامين نتنياهو.. بايدن الذى حرك حاملات الطائرات بعد ٧ أكتوبر وأعلن عن أنه صهيونى مخلص يمارس السباب العلنى ضد نتنياهو فى الاجتماعات الرسمية، وقال فى تصريح له أمس الأول إن فرص التفاهم بينه وبين رئيس وزراء إسرائيل باتت منعدمة... من نافلة القول إن أى تحرك مصرى خشن ضد إسرائيل سيزيد رأب الصدع بين الحليفين، وهو ما لا يريده أى كاره لسياسات إسرائيل الوحشية بكل تأكيد... يمكن القول إن مصر تمارس الصبر الاستراتيجى، وأن إسرائيل بعد الغارات على رفح قد وصلت لآخر المدى فى العمل العسكرى، وإنها ليس أمامها سوى العثور على الرهائن، أو قتل من تبقى منهم بنيران الغارات، ثم يسدل الستار على المشهد بكامله.. فى الأعمال التراجيدية الكبرى يسعى الأبطال لمصيرهم دون أن يستطيعوا تغييره، لا تمنعهم شجاعتهم من الموت أو الهزيمة لأن ذلك ما رسمه لهم القدر.. ترتبط بطولاتهم بالموت ولو فروا من مصائرهم لكانوا أبطالًا عاديين... الصراع فى غزة هو صراع تراجيدى بكل المعايير وسيخرج الجميع منه مهزومين.. سيواجه قادة حماس مصيرهم الذى رسمه لهم القدر، وهو أن يظلوا مطلوبين للموت طوال العمر، وبالتالى سيظلون هاربين طوال العمر.. من الصعب جدًا أن يستمر نتنياهو حاكمًا لإسرائيل، وثيابه ملطخة بدماء ثلاثين ألف مدنى فلسطينى معظمهم ليست له علاقة بتنظيم حماس، ولا شارك فى خطف الرهائن الإسرائيليين.. من نافلة القول إن قطاع غزة لم يعد هو القطاع الذى كنا نعرفه قبل ٧ أكتوبر لا من ناحية الحجر، ولا من ناحية البشر، ولا حتى الهواء الشاهد على أنات وجراح عشرات الآلاف من أبناء القطاع... كل ما يحدث مخاض عنيف ومؤلم لوضع جديد علينا أن نتماسك ونتجمل بالصبر حتى نخرج منه سالمين بإذن الله.