أمير من «ذهب»
أنا أبوالذهب فلا أمسك إلا الذهب.. من هذه العبارة التى ما فتئ يكررها اكتسب محمد بك، تلميذ على بك الكبير، لقبه، فصار اسمه «محمد بك أبوالذهب». تولى «أبوالذهب» الحكم بعد أن تمكن من أسر أستاذه «على بك» فى المعركة التى تواجها فيها بـ«الصالحية»، وتوفى الأخير بعد أسره بسبعة أيام، وبدءًا من العام ١٧٧٥ ميلادية «١١٨٨ هجرية» جلس «أبوالذهب» على كرسى مشيخة البلد فى مصر، وأصبح المتصرف الأول والأخير فى شئونها. وكان والى مصر فى ذلك الوقت خليل باشا محجورًا عليه بشكل كامل من جانب أبى الذهب، كما يصف «الجبرتى» فى كتابه «عجائب الآثار»، أما عن الأوضاع العامة فيصفها قائلًا: «كان الوقت فى هدوء وسكون، والأحكام فى الجملة مُرضية، والأسعار رخيّة، وفى الناس بقية، وستائر الحياء عليهم مرخية»، ثم يذكر بيت شعر عجيب يقول: «ما الدهر فى حال السكون بساكن.. ولكنه مستجمع لوثوب». ويبدو أن «الجبرتى» أراد أن يرمى بهذا الاستدعاء الشعرى للتقلبات العاتية التى سوف تشهدها مصر، بعد فترة الاستقرار القصيرة التى قضتها فى ظل حكم «محمد بك».
خلافًا لأستاذه على بك الكبير تمتع محمد أبوالذهب بدرجة أكبر من الذكاء السياسى، ظهرت أماراتها، بشكل جلى، منذ اللحظات الأولى لجلوسه على كرسى مشيخة البلد، فبمجرد أن لبس الخلعة ونزل من القلعة شرع يوزع البقاشيش وينثر الذهب على الفقراء والمشردين، الذين اصطفوا على طول الطريق من القلعة وحتى منزله. كان المشهد جديدًا، فلأول مرة يجد الأهالى أميرًا مملوكيًا يعطى ويبقشش، وهم الذين تعودوا من المماليك الأخذ والسلب والنهب. أحب الناس شيخ البلد الجديد الذى لا يضع فى جيبه إلا الذهب، ولا يعطى إلا الذهب. اتجه «أبوالذهب» أيضًا إلى تأديب اللصوص وقطّاع الطرق وهابته العربان، وأمّن طرق القوافل والبضائع، ووصلت المجلوبات من الجهات القبلية والبحرية بالتجارات والمبيعات، فارتاح التجار إلى عهده، وكان لذلك أثر كبير على توافر السلع بكثرة وغزارة، ما أدى إلى انخفاض الأسعار، وكان لذلك مردود شديد الإيجابية على نظرة الأهالى إلى عهده وأسلوب حكمه.
تحرك محمد أبوالذهب، أيضًا، على السلطنة العثمانية بشكل مختلف عن سلفه. فإذا كان «على بك» قد تمرد على السلطان، وانفصل بمصر عن الخلافة، إذ رأى فى نفسه ندًا للسلطان، فإن محمد أبوالذهب أخذ منحى مختلفًا، إذ أرسل العديد من الرسائل إلى السلطنة يعرب فيها عن طاعته، وأنه يريد العودة بمصر إلى حظيرتها من جديد، فرضى السلطان عنه وأيد وجوده على رأس مشيخة البلد فى مصر، ولم يتوقف «أبوالذهب» عند ذلك، بل عهد بإمارة الحج إلى تلميذه إبراهيم بك، وصرف العلائف وعوائد العربان، وأرسل الغلال إلى الحرمين، لتعود مصر إلى سابق عهدها ودورها على مستوى خدمة الحرمين الشريفين، تحت ولاية السلطان العثمانى.
ويبقى الأخطر فى شخصية «أبوالذهب»، والمتمثل فى قدرته على استقطاب المماليك والاستكثار منهم، وقد برز ذلك جليًا فى صراعه مع على بك الكبير الذى انتهى بوثوبه على السلطة. فقد صبر «أبوالذهب» على الصراع الطويل، أو بعبارة أخرى صراع عض الأصابع بينه وبين «على بك»، وتحصن كل منهما بعدد لا بأس به من المماليك المخلصين، لكن نية «على بك» التى بانت فى القضاء على كل المنافسين من المماليك دفعت العديد من أمرائهم إلى التحيز فى اتجاه «أبوالذهب». هنالك بدأت موازين القوة فى الاختلاف، وتوقع الأهالى أن الأمور ستؤول إلى «أبوالذهب» ويقضى على «الكبير»، وينتهى الأمر إلى الهدوء وسكون الأوضاع. فرغم أن «على بك» كان ضرسًا غائر الجذور لا يستهان به، إلا أنه سقط فى خطأ شوه صورته شعبيًا، حين شرع فى البحث عن قيادات جديدة يواصل بها الحرب ضد «أبوالذهب»، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الصف الثانى من الأمراء، فاختار ٧ صناجق مزلقين «حالقى الذقون»، أطلق عليهم المصريون وصف «السبع بنات»، وجعلوهم هدفًا لنكاتهم، وربما يكون «أبوالذهب» أكثر من كان يغذى مسألة السخرية الشعبية منهم، ما يعنى أنه أجاد منذ فترة مبكرة فنون الحرب النفسية، ونتيجة لهذا الأداء الواعى فى الصراع تمكن محمد بك أبوالذهب من قهر خصمه العنيد.
الذكاء السياسى الذى تمتع به «أبوالذهب» هو الذى ساعده على الوثوب نحو السلطة، ويسر له بعد ذلك الاستقرار على كرسى مشيخة البلد لمدة تقترب من العامين، واستقام له أمر الرعية التى تناغمت مع ما حققه من استقرار ورخاء فى الأحوال، ولم يجرؤ تلاميذ على بك الكبير على التحرش به أو التحرك ضده، فقد كان الجميع يهابه. وبين المحبة والمهابة شكّل محمد بك أبوالذهب آخر حبة فى سبحة المماليك الكبار المشاهير، خلافًا لمن أتى بعده. يقول «الجبرتى»: «وكان محمد أبوالذهب آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة وسعدًا وحزمًا وعزمًا وسماحة وحلمًا، وكان قريبًا للخير، يحب العلماء والصلحاء، ويكره المخالفين للدين، ولم يشتهر عنه شىء من الموبقات أو المحرمات، ولا ما يشينه فى دينه أو يخل بمروءته، وقورًا محتشمًا قليل الكلام والالتفات».