دعوة للهدوء
أنا متابع جيد لوسائل التواصل الاجتماعى باعتبارها «ديوان العصر»، وأظن أن هناك حالة من المبالغة فى التراشق بين حسابات يدعى أصحابها الانتماء لدول عربية مختلفة، هناك حسابات يدعى أصحابها أنهم مصريون مثلًا، وحسابات أخرى يقول أصحابها إنهم من أهل السعودية، وثالثة يقول أصحابها إنهم فلسطينيون... إلخ.. هذه الحسابات تقوم بإشعال حرب عربية - عربية مستغلة أن الفضاء الإلكترونى كله يقوم على فكرة العمومية وانعدام طرق التأكد من المعلومة.. فأصحاب الحسابات نفسها مجهولون ولهم أسماء مستعارة. والمعلومات التى ينشرونها غير منسوبة لمصدر معين ولا سبق نشرها فى وسيلة إعلام احترافية.. بعض هذه الحسابات تستغل خلافات حقيقية فى وجهات النظر بين الدول العربية.. وهذا وارد جدًا ويحدث طوال الوقت، أو تستغل حساسية شعب معين من تصرفات معينة لتنفخ فى نار الفتنة، أنا مثلًا كمواطن مصرى لدى حساسية من محاولات شراء القوة الناعمة المصرية أو مصادرتها وليس الاستمتاع بإنتاج الفن المصرى.. ولكن يمكن أن أكتب رأيى الخاص بموضوعية.. وأحدد تصورى لحل هذه المشكلة بوضوح.. الحسابات المجهولة لا تفعل هذا.. إنها توجه الشتائم للمصرى والسعودى معًا وتنفخ فى نار الفتنة.. من الوارد جدًا أنها حسابات صهيونية لها مصلحة فى إبعاد السعودية ومصر عن بعضهما البعض، ومن الوارد أنها حسابات إخوانية تسعى لإضعاف الدولة فى مصر والسعودية معًا لحساب دول أخرى احتضنت الإخوان وما زالت تمولهم، ومن الوارد أيضًا أنها حسابات حقيقية لمواطنين من هنا وهناك يظنون أنهم يخدمون أوطانهم بالهجوم على الآخرين.. وهذا خطأ كبير.. العلاقات بين الشعوب دائمة.. والخلافات مؤقتة.. والمشاكل لها أكثر من طريقة للحل.. الشعبان المصرى والسعودى مثلًا علاقتهما متداخلة جدًا جدًا منذ آلاف السنين.. ما زلت أذكر الرئيس السادات وهو يقول بطريقته المميزة إثر خلاف عربى- عربى «هاجر أم إسماعيل مصرية.. ومصر هى أصل العرب» ما قاله السادات رحمه الله حقيقة.. كما أن الهجرات المتبادلة بين البلدين طوال الزمن حقيقة أيضًا هناك أشياء لم أكن أحب شخصيًا أن تحدث لكنها حدثت وهى جزء من التاريخ.. ملايين المصريين فى الصعيد وكل أنحاء مصر جاءوا من شبه الجزيرة واختلطوا بالمصريين وصاروا منهم.. نحن نغنى للسيرة الهلالية التى يفتتحها الشاعر قائلًا إنها «سيرة عرب أقدمين» هاجروا إلى مصر ومنها إلى تونس.. الدكتور وسيم السيسى له كتابات رائدة عن تأثير الحضارة الفرعونية فى المنطقة العربية وفى شبه الجزيرة بشكل خاص.. هناك ملايين السعوديين يحبون كل ما هو مصرى وهناك مصريون تحتل السعودية عندهم مكانة لا تقاربها أى دولة أخرى.. العلاقة منذ الربيع العربى تشهد تحديات لها أسباب موضوعية كبيرة، هذه التحديات ظهرت بعد رحيل جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذى كان آخر حاكم عربى ينتمى لجيل حكام ما قبل الربيع العربى.. جلالة الملك سلمان منح الفرصة للجيل الشاب وعين الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد بصلاحيات واسعة كما نعرف جميعًا، وصعد جيل جديد شاب.. من التحديات فى العلاقات سقوط النظام العربى بمعناه التقليدى بعد أحداث الربيع العربى العاصفة، وبالتالى أصبحت هناك أنظمة جديدة أكثر حماسًا وربما أقل حكمة، هناك أيضًا ضغوط الولايات المتحدة على النظم العربية من أجل التطبيع وتخويفها بمصير النظم العربية التى رفضت التطبيع- مصر لها وضع خاص لأن جيشها لا يقدر عليه أحد وسلامها مع إسرائيل سلام مصرى بشروط مصرية- وبالتالى فإن تحليل العوامل الموضوعية ممكن أن يقلل من حدة الغضب من بعض التصرفات التى تبدو لنا غير مفهومة وغير لائقة.. كمصرى محب لوطنه أشعر أحيانًا أن هناك مصريين لديهم حساسية زائدة ولا داعى لها.. تابعت مثلًا معركة غريبة بدأت حين نشر مواطن سعودى صورة لمقهى سعودى فى ممشى أهل مصر وصحبها بتعليق «السعودية على نيل القاهرة» بغض النظر عن عدم كياسة التعليق لكننى اندهشت من هجوم بعض الحسابات التى تقول إنها مصرية عليه.. لدينا فى القاهرة مطعم صينى ومطعم هندى ومطاعم يمنية وسورية كثيرة فما هى المشكلة أن يكون لدينا مقهى أو مطعم سعودى؟ لا مشكلة إطلاقًا ولكنها مجرد حساسية طبيعية أو مصنوعة.. نريد أن نهدأ قليلًا، وأن نترك مؤسسات الدولة تمارس عملها باحترافية، وأن نحذر من الحسابات المدسوسة التى تشعل نار الفتن بين الدول العربية لحساب من يريد الهيمنة على المنطقة العربية.. نريد أن نهدأ وأن نمارس الصبر الاستراتيجى.. فهل هذا صعب؟