«كشكش الريحانى».. و«كشكش الأمير»
لم تنشأ شخصية «كشكش بك» التى اشتهر بتمثيلها الفنان الراحل نجيب الريحانى، من فراغ، بل كان لها أصل مملوكى. اسم «كشكش» لم يكن من الأسماء المتداولة التى يسهل أن تذوب أو تتلاشى فى خضم الكثرة، بل كان فريدًا على المسامع، وظل سنوات طويلة مرتبطًا بشخصية الأمير المملوكى «حسين بك كشكش»، وقد تألق اسمه وذاعت شهرته فى عصر على بك الكبير، الذى استقل بحكم مصر عن الدولة العثمانية فترة من الزمن، وكانت له أدوار فاعلة داخل مشاهد الصراع السياسى حينذاك. تمتع «حسين كشكش» بمكانة ما فى الوجدان الشعبى المصرى، جعلته يخلد بصورة واعية أو غير واعية على خريطة الذاكرة الشعبية حتى اللحظة التى قفز فيها إلى مخيلة الفنان نجيب الريحانى، فاستدعى الاسم وبنى عليه شخصية «كشكش بك» التى اشتهر بها، ومثلت بالنسبة له طوق نجاة فى لحظة تهدد فيها مستقبله الفنى. يحكى «الريحانى» فى مذكراته أن صورة هذه الشخصية الكاريكاتورية قفزت فى ذهنه فى ظرف عانى فيه من سوء الأحوال، حيث طردته العديد من الفرق المسرحية من جنتها، وصرخ المسئولون عنها فى وجهه بأنه لا يصلح للتمثيل.
شخصية «كشكش بك» الهزلية التى رسمها الفنان نجيب الريحانى كانت مختلفة فى عدة جوانب عن شخصية «حسين بك كشكش»، الأمير المملوكى المقاتل، الذى كان له دور خطير فى الصراع الذى نشب بين شيخ العرب همام الذى استقل بصعيد مصر عن القاهرة، وعلى بك الكبير الذى انخرط فى حربه حتى قضى على حركته الانفصالية عن العاصمة، لكنها فى المقابل كانت متفقة مع «كشكش الريحانى» فى الخط الهزلى فى بعض أحوالها. «كشكش الريحانى» عمدة من أثرياء الريف، أتى إلى القاهرة فبهرته أضواء المدينة، والتفت حوله الحسناوات طمعًا فى ماله، وأخذن يسحبن ما فى جيبه، الجنيه تلو الآخر، حتى تركنه على الحديدة. يقول «الريحانى» فى مذكراته إنه كتب «اسكتش» مدته ٢٠ دقيقة حول إحدى مغامرات هذه الشخصية الهزلية، ويحكى أنه حادث نفسه قبل أن يرفع الستار عن الرواية، قائلًا: «أحسست حينذاك أن روايتى هذه تعتبر مثلًا أعلى فى السخافة، وأننى لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعنى إلا أن ألعن أبو خاش المؤلف، والمؤلف بالطبع هو أنا، والمخرج برضه أنا.. والملحن أنا». فوجئ «الريحانى» بعد تمثيل الرواية بأن الجمهور أعجب بها أشد الإعجاب، وعلّمت فى رأسه شخصية «كشكش بك»، وإفيهاته، وحواديته.
فى المقابل كان الأمير حسين بك كشكش شخصية مركبة تجمع بين الجد والهزل، والبأس الشديد واللين الذى يصل إلى حد المزاح والتبسط مع المحيطين به. عن الجانب الأول فى شخصية «كشكش الأمير» يقول «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» إنه كان من المقاتلين المشهود لهم بالشجاعة والجرأة وقوة البأس، تقلد إمارة الحج أربع مرات، وتمكن من تأمين قوافل الحجيج ضد الهجمات المتواصلة التى كانت تتعرض لها من جانب العرب، وتمكن من تأديبهم، وإخافتهم وإرعابهم، إلى حد أنهم كانوا يخيفون به أطفالهم، فكان يكفى للطفل المشاغب أو الذى يأبى النوم أن يقولوا له «هنجيب لك كشكش» حتى يهدأ وينام. ويظهر الخط الثانى «الهزلى» فى شخصية «كشكش الأمير» فى ذلك الوصف الذى يقدمه «الجبرتى» لملامح شخصيته، حيث يقول إن حسين كشكش كان أسمر اللون جهورى الصوت عظيم اللحية يخالطها الشيب، يميل إلى المزاح والخدعة وإذا لم يجد من يمازحه مازح سائسه أو خادمه، وسمعته يقول لبعضهم مثلًا سائرًا أو نحو ذلك. الوصف الذى يقدمه «الجبرتى» يشير إلى الجانب الهزلى الذى ميّز شخصية الأمير، وولعه بالقفشات والتعليقات الساخرة وتوظيف الأمثال، ويبدو أن هذا الجانب رسخ فى الوجدان الشعبى، وارتبطت به شخصية «كشكش» فى ذاكرة المصريين، وليس من المستبعد حضوره فى اللحظات التى كان يرسم فيها نجيب الريحانى شخصية «كشكش بك».
لم توغل كتب التاريخ فى إبراز الجانب الساخر أو المازح فى شخصية «كشكش الأمير»، وكان من الطبيعى أن تركز على الدور السياسى والقتالى له، والذى ارتبط بحدث بالغ الخطورة فى تاريخ تجربة الحكم المملوكى فى مصر، حين قرر شيخ العرب همام، كبير أهل الصعيد، تحدى السلطة المركزية المملوكية داخل القاهرة، واستقل بقسم كبير من أرض الصعيد تحت رئاسته، وكان ذلك كما تعلم فى عصر على بك الكبير، وقد انضم «حسين بك كشكش» إلى التمرد الذى قاده شيخ العرب، بعد عداء وصل إلى حد الاقتتال فيما بينهما، وكان لهذا التحالف أثره فى هز أوضاع على بك الكبير، فحاول إيقاع «كشكش» عدة مرات، وأرسل إليه عساكره لقتاله والقضاء عليه، وسعى إلى اغتياله، لكنه فشل. وبعد مطاردات متعددة اضطرت «حسين بك كشكش» وأتباعه إلى الفرار إلى «طنطا» أو «طنتدتا»، كما يسميها «الجبرتى»، للاختباء بها، استطاع على بك الظفر بغريمه. كان ذلك عام ١٧٦٨ ميلادية، فقد علم «الكبير» باختفاء «كشكش» فى هذه البلدة، فأرسل عساكره خلفه وحاصروها من كل الاتجاهات، ونشب قتال مرير بين الطرفين، وظلت الحرب قائمة بينهما حتى فرغت ذخيرتهما، وأرسل «كشكش» وأتباعه إلى محمد بك أبوالدهب، الذراع اليمنى لعلى بك الكبير، يطلبون منه الأمان، خادعهم أبوالدهب وطمأنهم إلى أنه يرتب لهم أمر الصلح مع «الكبير»، فانخدعوا وصدقوه، وانحلت عزائمهم، واختلفت آراؤهم، بعدها أرسل «أبوالدهب» إلى «كشكش» يطلبه فى مشورة، فذهب الأخير وبصحبته خليل بك السكران فقط، ولما وصلا إلى مكان الاجتماع لم يجدا «أبا الدهب» فجلسا ينتظرانه، ولم يدرك «كشكش» أنه وقع فى فخ مميت إلا حين وجد عساكر «على بك» فوق رأسه يعملون السيف فيه.. وكانت نهايته.