عن الإصلاح الإدارى
كنت أفكر فى موضوع هذا المقال حين قرأت تصريح د مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، والذى يقول فيه «إن انتقال الوزارات للعاصمة الإدارية دليل على نجاح الدولة فى الإصلاح الإدارى» والحقيقة أننى فكرت كثيرًا فى التصريح ورأيت أنه متفائل أكثر من اللازم، والأدق من وجهة نظرى أن يقال إن تأسيس الدولة للعاصمة الإدارية دليل على رغبتها القوية فى تحقيق الإصلاح الإدارى وسعيها لذلك، لكن الحقيقة أن هناك دائمًا فارقًا بين ما تريده الدولة وما تستطيع الحكومة أن تنفذه من هذه الإرادة أو الرؤية، هذا الفارق تتحمل مسئوليته سنوات طويلة من التأخر فى تحديث الجهاز الإدارى للدولة وربما أيضًا تباطؤ من الحكومة الحالية فى تحقيق خطوات هذا التحديث، لأن الجهاز الإدارى للدولة يمتد فى طول مصر وعرضها ويعمل فيه ملايين الموظفين، منهم الصالح والطالح، والطيب والخبيث، والمنضبط وغير المنضبط، وبالتالى لا يمكن أن نثق تمامًا فى تصريح دولة رئيس الوزراء عن نجاح الحكومة فى تحقيق الإصلاح الإدارى مرة واحدة وسأروى ثلاثة مشاهد واجهتها فى يومين فى مصالح حكومية مختلفة توضح التفاوت الكبير فى مدى تحقيق الإصلاح الإدارى أو مدى استجابة البيروقراطية المصرية العتيقة له.. كان المشهد الأول فى إدارة الإيداع بدار الكتب والوثائق المصرية، حيث خطر لى أن أخوض تجربة استخراج رقم إيداع خاص بكتابى الجديد بنفسى.. وجدت مجموعة من الموظفين المصريين المحترمين فيهم عيوب الموظف المصرى ومميزاته.. وكان هناك زحام بسبب اقتراب معرض الكتاب.. وكانت الأوراق المطلوبة بسيطة للغاية.. مثل غلاف الكتاب وملخص له وصورة بطاقة المؤلف.. ما لفت نظرى أن كل هذه الأوراق يمكن إرسالها بالبريد الإلكترونى أو حتى العادى.. إن الإجراءات لا تتطلب التوقيع على وثائق مثلًا أو حتى ضرورة وجود صاحب الشأن.. قلت لنفسى إن مئات الأشخاص يخرجون من منازلهم يوميًا ويستخدمون المواصلات العامة ويضيعون من أيامهم ساعات ويقابلون موظفًا مضغوطًا من كثرة العمل أو من ظروف الحياة ويقفون فى طابور.. إلخ ليحققوا خدمة يمكن تحقيقها بالبريد الإلكترونى بمنتهى السهولة.. حيث سيكون ذلك أسهل للمواطن وللموظف أيضًا.. وقد لفت نظرى أن الخدمة مجانية تمامًا.. فى حين يمكن تحصيل رسم رمزى بسيط مقابل أن تكون الخدمة إلكترونية، حيث يوفر الجميع الوقت وثمن المواصلات ويتلافى الجميع المواجهة المباشرة بين الموظف والجمهور..ونحن هنا نتحدث عن تلقى أوراق بالبريد الإلكترونى، لا عن معاملة إلكترونية معقدة.. وبالتالى فإن استمرار هذه المعاملات اليدوية بين المواطن والموظف فى ٢٠٢٤ يدفعنا للشك فى أن الإصلاح الإدارى قد تحقق فى جميع أنحاء مصر بالكامل.. أما المشهد الثانى الذى واجهته فقد كان مع إحدى شركات الكهرباء.. حيث استيقظت لأجد الكهرباء مقطوعة فظننت أن هذا جزء من سياسة تخفيف الأحمال.. لكن الكهرباء استمرت مقطوعة ساعات طويلة حتى أدركت أنها مقطوعة عن منزلى أنا خصيصًا.. وبعد استفسار وجدت أن موظفًا فى شركة كهرباء جنوب القاهرة قرر قطع الكهرباء لأننى لم أدفع الفاتورة.. وكانت مشكلتى أن محصل الكهرباء لم يزرنى أساسًا.. ولم أتلق إيصال الكهرباء، كما تعود جيلى أن يزوره المحصل منذ عشرات السنين..خضت مغامرات لشحن هاتفى المحمول الذى فرغت بطاريته وسارعت بالسداد عبر تطبيق فورى.. وأرسلت صورة الإيصال للموظف الحاكم بأمره تنفيذًا لتعليماته.. لكن الباشا كان مشغولًا..لم ير إيصال الدفع ولم يعد الكهرباء التى قطعها دون إنذار مخالفة للوائح، اتصلت بالمتحدث الرسمى لوزارة الكهرباء الذى أبدى كل تفهم وكل تعاون وأخبرنى أنه لا بد من إنذار المواطن قبل أن تقطع عنه الكهرباء غصبًا واقتدارًا لأنه تأخر فى دفع فاتورة الشهر لمدة أيام !!وهو لم يدفع لأن المحصل لم يزره من الأساس.. وسألت نفسى ما الصعوبة فى أن ترسل شركة الكهرباء رسالة على المحمول للمواطن تخبره فيها أنه سيتم قطع الكهرباء إذا لم يدفع الفاتورة «التى لم تصله من الأساس»! أليس هذا أكثر لياقة وتخفيفًا للضغط على المواطن.. ألا يكفى أن المواطن يتحمل راضيًا انقطاع الكهرباء لتخفيف الأحمال فتعاقبه بقطع الكهرباء دون إنذار لأنه تأخر أيامًا فى سداد فاتورة لم تصله.. أليست هذه تصرفات قبيحة من البيروقراطية تزيد الأحمال على القيادة السياسية وتجعل المواطن يكره الدولة التى يعتبر أن هذا الموظف المهمل ممثلً لها.