قبل أن تكتب روايتك الأولى
قبل أسابيع قليلة، ومع بداية الإعداد لإصدار مؤسسة «الدستور» جريدة ثقافية رقمية «ديجيتال»، فكرت فى عدة تصورات للمساهمة بالكتابة فيها، وكلها تخص الآداب والفنون بحكم تخصص الجريدة، وبحكم ميولى الشخصية بالطبع.. ومن بين عدة تصورات للكتابة، كنت أقرب إلى فكرة استعراض وتحليل عدد من الروايات المهمة، أو الفارقة محليًا وعالميًا، أو تلك التى تندرج ضمن قائمة مفضلاتى للقراءة، وتشهد ما يشبه الإجماع على جودتها وفرادتها، أو على الأقل مساهمتها فى تطور ذلك الفن، الذى أظنه من أعلى وأهم فنون الكتابة الأدبية فى عصرنا الحديث.. وكنت أقرب إلى أن تندرج هذه المقالات تحت عنوان «قبل أن تكتب روايتك الأولى»، خصوصًا وأننى لست بمتخصص فى النقد الأدبى، ولا أميل إلى الكتابة النقدية المنهجية أو الأكاديمية، بقدر محبتى للكتابة التعريفية، التى تسهم بقدر ما تستطيع فى تقريب ما يستهوينى من كتب إلى القراء، إن وجدوا، والحقيقة أن هذه الفكرة تراودنى منذ فترة طويلة، ربما تزيد على العامين تقريبًا، وربما بدأت تختمر فى ذهنى منذ لاحظت حالة الإقبال غير المسبوق على كتابة الرواية فى جميع الدول الناطقة باللغة العربية، خصوصًا مع تفجر موجات الجوائز السخية ماليًا، والتى لعبت دورًا لا أظن أن أحدًا ينكره فى ازدهار ذلك الفن، رغم ما قد يراه غيرى من تهديد تشكله هذه الجوائز الموجهة غالبًا، خصوصًا مع توالى موجات الكتابة الروائية للمراهقين، ودخول غير الأدباء على خط إنتاجها، وإغراق «سوق الكتب» بعدد كبير من الروايات التى يراها نقاد ومتشددون دون المستوى، أو مجرد حكايات شخصية لقتل الوقت، أو لتقديم العبرة، والموعظة الحسنة، ويبنون على ذلك تصورهم المنحاز، وغير الموضوعى، فيذهبون إلى انهيار قريب لذلك الفن.. لكننى أظن أن ما يحدث من انتشار لهذه الموجات مجرد مقدمة لتطور يأخذ الكثير من الوقت قبل الوصول إلى أى ذروة فى أى مجال من مجالات الإبداع، فمع الوقت والتجارب، تتبلور الأفكار، والتصورات، ويبدأ الجادون من هؤلاء الكتّاب فى تعديل طرقهم، والبحث عن مفردات جديدة، ناهيك عن اكتساب «سوق الكتاب» جمهورًا جديدًا، مرشحًا للزيادة والنمو.
كانت الفكرة من تلك المقالات هى تحديد عدد من الملامح التى أظن أنها شكلت عناصر نجاح تلك الروايات، وانتشارها، وترجمتها إلى كثير من اللغات حول العالم، ومن ثمة وصولها إلى كل أركان الأرض، بالإضافة إلى تناولها بالتحليل، والدراسة، وتفكيك عناصرها، إلى جانب شرح بسيط للفكرة التى تم بناء الرواية وفقًا لها، سواء كانت أسلوبية، أو غيرها، وفى مقدمتها بالطبع رائعة ديستوفيسكى «الجريمة والعقاب»، الرواية التى لعبت دورًا بالغ الأهمية فى تذوقى للأدب خلال سنوات الصبا الأولى، لكننى عندما بدأت فى تنفيذ ما نويت، وجدتنى أقرب إلى الكتابة عن تحفة اليابانى ياسونارى كواباتا «منزل الجميلات النائمات»، التى أعتقد أنها الرواية التى فتحت مخيلتى، وشهيتى للكتابة الأدبية بصورة أوضح، وما زالت تستهوينى لإعادة قراءتها، واكتشاف ما بها من جمال، وفتنة تستعصى على الوصف والتحليل.
ما حدث هو أننى عندما بدأت فى تنفيذ ما ذهبت إليه نفسى من كتابة، توقفت للحظة داهمنى خلالها السؤال عن عدد الكتب المترجمة إلى العربية لأمثال كواباتا وديستوفيسكى، ماذا لو كانت هناك أعمال أهم، وأقوى، ولم تتم ترجمتها إلى اللغة العربية، ولم أقرأها فى لغتها الأصلية؟! فالحقيقة أن لغتى الإنجليزية، على سبيل المثال، لا تتيح لى قراءة الكتب.. ربما بعض العروض أو المقالات، أو مراجعات الكتب والأفلام، وبعض المقالات الاقتصادية التى داومت عليها خلال فترة عملى بصحيفة «الخليج» الإماراتية.
هل يمكننى الوثوق فى اختيارات المترجمين العرب من بعد طلعت الشايب وأبوبكر يوسف وصالح علمانى؟! هل تضع دور النشر المتخصصة فى الترجمة اعتبارات القيمة الفنية والأدبية فى حساباتها قبل العائد المالى؟!
والتساؤل هنا بالطبع لا يخص ما يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب من ترجمات، ولا إصدارات المشروع القومى للترجمة، فلكل منهما دوره، وحساباته، وآليات عمله.
الواقع أنه لأسباب كثيرة، تقتصر ترجمات الأدب اليابانى أو الروسى، على سبيل المثال، على بعض الأسماء، التى يظن «تجار الكتب» أنها الأكثر مبيعًا، أو أن حقوق الملكية الفكرية لإنتاجها قد انتهت، وحتى هذه لا يهتم بنشرها، أو إعادة إنتاجها، سوى عدد شديد المحدودية من دور النشر العربية، وفى الغالب لا تهتم بغير أسماء لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، يتصدرها فى الأدب اليابانى مثلًا، هاروكى موراكامى، ويوكو ميشيما، فيما تتوارى أسماء كثيرة راكمت على مدار السنوات رصيدًا من المؤلفات التى شكلت السمات المميزة للأدب اليابانى، وصبغته بتلك الملامح شديدة الخصوصية، وفى مقدمتها ياسونارى كواباتا، الذى أظن أن أعماله كانت بمثابة البوابة الكبرى التى اطلع منها العالم على ذلك المنتج الغارق فى التأملات الروحية، والمغرق فى التفاصيل التى تتشكل منها ماهية الإنسان، ومسارات رحلته فوق الأرض.. فماذا لدينا «عربيًا» من أعمال كواباتا؟! وكم عدد ما ترجمناه له من كتب وقصص قصيرة وروايات؟!
الملفت أن غالبية المشتغلين بالأدب فى عالمنا العربى يعرفون كواباتا «عز المعرفة»، لكنها فى ظنى معرفة منقوصة، تستند فى معظمها على مقال صغير كتبه الكولومبى الأشهر جابريل جارثيا ماركيز عن إحدى روايات كواباتا، هى رواية «منزل الجميلات النائمات»، ولا أظن أننى بحاجة إلى التذكير به مع كثرة تداوله، وتحوله، فى ظنى، إلى نقيصة تقلل من قيمة منجز ذلك الكاتب الاستثنائى.
ما عدد الكتّاب الذين ترجمنا أعمالهم من اللغة الروسية بعد ديستوفيسكى وتولستوى وبوريس باسترناك؟.. أصلًا ماذا ترجمنا لهذا الأخير غير رائعته «دكتور زيفاجو»، والتى أظن أن أحدًا لم يكن ليسمع بها لولا اختيار النجم المصرى الكبير عمر الشريف لبطولة الفيلم المأخوذ عنها.. بل لا أظننى مغاليًا إن ادعيت الآن أن غالبية من شاهدوا الفيلم، لم يقرأوا الرواية، بل ولا يعرفون اسم كاتبها.. وربما لا تجد ناشرًا يتحمس لإعادة طبعها حاليًا.. فى الغالب لا يعرفون أن حقوق ملكيتها قد انتهت؟