شرفة لبنى «1»
الفتى الذى تحمله مراهقته يوميًا من ذات الطريق، يمضى قاطعًا سوق الخضار إلى شارع المواصلة، مارًا بمدرسته الابتدائية عابرًا شريط القطار إلى مقابر الغفير، هناك أسفل جبل المقطم، حيث اعتاد أن يجلس عند مدخل إحدى الجبانات مفترشًا بلاطها ناصع البياض ممسكًا قلمه الفحم ليكتب بعض ما يهذى به، هنا حيث السلام واليقين، الموت والحياة يتجاوران ولا تدرى أيًا منهما أقرب إليك، تختفى الضغينة والأحقاد بموت الكلام، تحت هذه الأرض تنام الأجساد صامتة دون حيلة تُذكر، يكتب ويكتب إلى أن يستبد به العطش فينهض مسرعًا إلى البناية الوحيدة التى ترتفع شاهقة بين كل هذا الموت، يطرق الباب وينظر لأعلى ريثما تفتح لبنى شرفتها المزينة بالأزهار، تبتسم قبل أن تهبط فاتحة له بابها، يغض بصره وعلى استحياء يسترق النظر لبهاء فتنتها وهو يتناول كوب الماء من كفها المضىء، يشرب حتى يرتوى دون أن تترك له ربكته حرصًا يمنع بعض قطرات تنزلق عالقة بشعيرات صدره فتلمع كحبات لؤلؤ، يمسحها وهو يشكرها بهمهمات غير واضحة، يطأطئ رأسه ثم يعود أدراجه مواصلًا هذيانه بنشوة غامضة تفتح الأفق أمام أبهى أحلامه، يهذى «البنت زى لهطة القشطة، شفايفها ورد والخدود تفاح، وعنيها وسع الدنيا، فى كل عين نن أسود غطيس، لو شفت لونه تحت قرص الشمس يحصلك خبل، ورموشها بتضلل على فدان، يا بخت عينك لو شافتها لحظة الخجل وهى بتحوط خدودها بكفتين متحنيين ربانى، راح تعمل ايه يا حزين، وسع خيالك حبة واتأملها لحظة عريها»، ما هى إلا دقائق حتى عاد طالبًا الماء، لكن لبنى التى لمحته من نافذتها تباغته عند الباب، ناولته كوب الماء وباليد الأخرى زجاجة مثلجة، تقول: ألا ترى أنك كثير العطش؟ يجيبها: من يشرب من كفك لا يرتوى، تقول: صوتك ليس غريبًا عنى، كأنى أسمعه كل يوم، يداعبها مازحًا: لم يعتمدونى بعد مطربًا بالإذاعة، تبتسم، يستدرك: صحيح فاتنى أن أسألك كيف تنامون هنا؟ تقصد مع الموتى؟ نعم، كيف هى الأحلام والكوابيس، تقول: الأولاد الصغار بعد الموت يتحولون إلى عصافير أما الكبار فيصيرون طيورًا بمختلف أنواعها وأحجامها، يعاجلها: والبنات الصغيرات، تقول: تتحولن إلى فراشات، يا لها من قصيدة لم تخطر ببال، يلوح منصرفًا وتظل لبنى خلف بابها تراقبه حتى يبلغ نهاية الشارع، هناك حيث اعترض طريقه بعض صبية أوسعوه ضربًا حتى سقط مغشيًا عليه ولم يفق غير وهو يتمدد عند عتبة مقبرة الشهيد عبدالمنعم رياض.
لم تعرف لبنى بأمر العلقة الساخنة التى نالها، على الأقل حينها، ظلت جملته تدور فى بالها «من يشرب من كفك لا يرتوى» حتى اكتشفت أنه نفس الصوت الذى تستمع إليه ملقيًا الشعر يوميًا عبر إذاعة المدرسة الثانوية التى تبعد بعض مترات عن مدرستها، يا الله لو أنه حقًا هو، أدارت قرص هاتف البيت وحكت لصديقتها منى ما جرى ثم سألتها: أتذكرين اسم الولد الذى يلقى الشعر من مدرسة الإمام؟ أجابتها منى: رحيم؟! فعلًا اسمه رحيم، أغلقت السماعة دونما تودع صديقتها، كان ينبغى أن أفطن لذلك دون مشقة فطالما أدهشنى صمته الدائم وهيئته المتحفظة ثم مكوثه عند الجبانة هناك بالساعات يكتب ويهذى حتى أكاد أتبين صوته، صوته المعجون بالشجن، تتذكر بعض أبياته: الحزن سيدى، يضاجع العيون فى المساء ويختبى فى قهوة الصباح والشاى المرير.