شعب جبار
تقدم تجربة المصريين مع الوزير بهاء الدين قراقوش واحدة من أقدم تجارب «الاغتيال المعنوى» لشخصية غضب عليها الجمهور. «وقراقوش»، كما تعلم، هو وزير السلطان صلاح الدين الأيوبى. وكان- كما يذهب «ابن تغرى بردى»- خصيًا أبيض، ويرجح أنه كان من خدام أسد الدين شيركوه، عم «صلاح الدين»، وبعد وفاة الأول انتقل إلى خدمة السلطان الجديد لمصر، وكان «صلاح الدين» يثق به كل الثقة، وأوكل إليه العديد من المهام الخطيرة، على رأسها بناء القلعة وسور القاهرة، ومراقبة أى تحركات انقلابية من جانب فلول رجال الدولة الفاطمية، ممن كانوا يمرحون فى قصر العاضد، قبل أن يسيطر عليه صلاح الدين.
نهض «قراقوش» بمهمة بناء القلعة وسور القاهرة، ولم تكن تلك بالمهمة السهلة، فجلب الحجارة الضخمة التى اعتمد عليها البناءان كان يتطلب توفير عدد ضخم من العمال الأشداء، وقد أوكلت المهمة بشكل كامل إلى بسطاء المصريين، وشارك أغلبهم فى هذا العمل الشاق بالجبر والسُخرة. لا يستطيع أحد أن يقلل من أهمية الإنجاز الذى تمكن «قراقوش» من إتمامه، حين أقام القلعة وسور القاهرة، لكن يبدو أن أسلوب تسخيره المصريين لتحقيق هذا الهدف أوجع مجايليه بشكل كبير، وأثار حنقهم عليه، فرسموا له صورة «جبار الأرض»، الذى يقهر الجميع على ما يريد، سواءً ما كان يريده معقولًا أو غير معقول، وأنه ليس من صنف الوزراء الذين يعطون الأجير حقه، أو يقدرون وجعه وتعبه كإنسان، أو يرحمون ضعفه، فكل ما كان يركز فيه هو إتمام المهمة التى وُكّل بها من جانب السلطان. واستمرار الوزير «قراقوش» فى خدمة صلاح الدين لمدة تقارب الثلاثين عامًا يعنى أنه كان راضيًا عنه كل الرضا، ويستحسن أداءه وممارساته، ويوظفه كأداة لتمرير بعض القرارات القهرية، التى لا يريد أن يشوه بها صورته كحاكم عادل رحيم أمام الرعية.
كان «قراقوش» أيضًا أداة السلطان صلاح الدين فى استئصال الشيعة والتشيع من مصر، حين جعله مسئولًا عن القصر الذى ورثه عن العاضد، بدلًا من مؤتمن الخلافة، وهو أحد كبار الشيعة الفاطميين الذين راعهم زوال دولتهم على يد صلاح الدين. مثّل مؤتمن الخلافة المحرك الأول لمحاولات إعادة مصر إلى حظيرة التشيع من جديد، ويشير «ابن الأثير» إلى أنه راسل، هو ومجموعة من الشيعة السودان، الفرنج، ليطبقوا على مصر من الشمال، فيخرج لهم صلاح الدين، ثم ينتهزوا فرصة خروجه ويحدثوا انقلابًا فى الحكم، ويستولوا على السلطة، ثم يسيروا وراء صلاح الدين، بحيث يقع بين فكين: الأول هو الفرنج والثانى هو الشيعة «السودان»، ويبدو أن «صلاح الدين» تمكن من كشف المؤامرة، فأرسل جماعة من أتباعه قتلوا مؤتمن الخلافة، واتخذ قرارًا بعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر القصر، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وكان لا يجرى فى القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه، كما يشير «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ».
غضب السودان «الشيعة» الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة أشد الغضب، وكان خصيًا أسود، وجمعوا عساكرهم من كل اتجاه فبلغ عددهم أكثر من ٥٠ ألف مقاتل، وتحركوا نحو القاهرة للتخلص من صلاح الدين، ونشبت معركة حامية بين الفريقين، كثر فيها القتل، وكاد السودان يحققون النصر، فاندفع صلاح الدين وأرسل مجموعة من رجاله إلى المنصورة، حيث تقبع بيوتهم، فأحرقها على أموالهم وممتلكاتهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا لإنقاذ ذويهم، فانهزموا وركبهم السيف.
وكعادتهم قاوم المصريون «اليد الباطشة» لبهاء الدين قراقوش بالنكتة والسخرية، ونجحوا فى اغتياله معنويًا، بصورة بدت ممنهجة، خلال فترة حكم صلاح الدين الأيوبى. وكان دستورهم فى ذلك الكتاب الذى حرره الشاعر الشعبى «أسعد بن مماتى» بعنوان «الفاشوش فى حكم قراقوش»، وجمع فيه العديد من النوادر المضحكة التى كان يرددها المصريون عن وزير صلاح الدين، وتشهد فى أغلبها على خفة عقله، وشذوذ فعله، وتؤكد أنه لم يكن أكثر من يد باطشة وظفها السلطان فى قهر المصريين. وينكر «ابن خلكان» ما ورد فى هذا الكتاب، ويصفه قائلًا: «فيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان يعتمد فى أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوضها إليه».
لا نستطيع تأكيد أو نفى الرأى الذى ذهب إليه «ابن خلكان» بحال، فاعتماد السلطان صلاح الدين، بما عُرف عنه من حنكة وحكمة سياسية، على «قراقوش» كواحد من أخطر وزرائه يعنى أن الرجل كان كما يصف «ابن خلكان»، لكن علينا ألا نغفل أن السلطان، أى سلطان، يحتاج إلى هذا النوع من المسئولين، ليوظفهم كأيد باطشة، يمرر من خلالهم بعض القرارات القهرية، من وراء حجاب، ويبقى أن المصريين نجحوا فى تشويه صورة «قراقوش» خلال حياته، وقدموه فى شكل كاريكاتورى مضحك كرمز للقهر على الأمور غير المعقولة، وتمكنت هذه الصورة من البقاء فى ذاكرة المصريين، جيلًا بعد جيل، وأصبحت عبارة «حكم قراقوش» مثلًا خالدًا على المسئول صاحب اليد الباطشة والقرارات القهرية التى تؤكد انتحار المنطق.. لتثبت دور النكتة كسلاح ماضٍ فى الاغتيال المعنوى.