ولا يوم من أيامك!
سنة ٥٦٩ هجرية توفى السطان نورالدين أبوالقاسم محمود بن زنكى بن آق سنقر، صاحب الشام، والمعروف بـ«نورالدين الشهيد»، عن عمر يناهز الثامنة والخمسين، إذ إنه من مواليد ٥١١ هجرية. ولم أجد عند «ابن تغرى بردى» تفسيرًا لهذا اللقب الذى أُطلق عليه، وظل ملتصقًا باسمه فى كتب التاريخ، وهو لقب الشهيد. امتاز الرجل منذ صغره بأمارات النجابة والقوة والحزم، وظهر بين أشقائه كمشروع زعيم وقائد منتظر، فآثره أبوه «زنكى» عليهم، واهتم بتربيته أشد الاهتمام، فنشأ كشخصية مكتملة النضج، تمتلك العقل والحكمة، والعزم والحسم.
استطاع نورالدين الشهيد السيطرة على دمشق وما حولها، وأبلى بلاءً حسنًا فى مواجهة الفرنج، ويعود إليه الفضل فى اكتشاف صلاح الدين الأيوبى كقائد عسكرى فذ، وكقيادة حكيمة تستطيع إدارة أمور الدول والممالك، وقد أرسل به مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر، حين استنجد به الخليفة الفاطمى «العاضد». يقول «ابن تغرى بردى» إن «نورالدين» فتح فى أيامه ما يزيد على ٥٠ حصنًا، وكانت مصر من جملة فتوحاته. والواضح أن الرجل كان سلطانًا مهيبًا يخشاه الجميع، وأكثر من كان يخشاه نجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، وقد حكيت كيف نصح ابنه بالرضوخ له، وعدم الدخول فى أى مواجهة معه، وأن يترك السنين تعمل عملها معه، فى وقت كان صلاح الدين فيه ما زال شابًا، وكان نورالدين يخطو نحو الشيخوخة.
اللحظات الأخيرة فى رحلة نورالدين الشهيد فى الحياة بدأت بعد أن ختن ابنه الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، فتدفق الوجهاء والكبراء يهنئونه بالمناسبتين، بعدها بدأ نورالدين يشعر بالتوعك، والعجيب أن هذا الرجل على ما تمتع به من حكمة وكاريزما سياسية وعسكرية، لم يكن يؤمن بالطب والعلاج. ولما عرضوا عليه إحضار الطبيب، أو التماس بعض الحلول المتعارف عليها فى علاج توعكه، رفض، وكان من الهيبة بحيث لا يستطيع أحد أن يراجعه، وأخذت حالته تستاء شيئًا فشيئًا، فمات بعد أسبوع واحد من انتهاء عيد الفطر فى الحادى عشر من شوال.
أقول لك ذلك لأن «ابن تغرى بردى» يحكى عن هذا الرجل حكاية تؤكد أنه عاش مؤثرًا، وظل مؤثرًا بعد رحيله، إلى حد أن الناس كانت تتباكى على أيامه. يشهد على ذلك قصة الرجل التى اشتهرت بعد وفاة السلطان نورالدين. بدأت أحداث القصة عندما جار عدد من أمراء «صلاح الدين» على أحد الرجال وأخذوا ماله، فانهار الرجل، وشرع يبكى للأمراء، ويتوسل إليهم، حتى يردوا عليه ماله، دون جدوى. لم يجد بدًا وذهب إلى السلطان صلاح الدين الأيوبى، وحكى له الظلم الذى حاق به على يد أمرائه، فلم يفعل له شيئًا، ولم يحل مشكلته. هنالك أُسقط فى يده، وأصبح يبكى ويشكو لكل من يراه، تعاطف معه الناس، لكن أحدًا لم يفعل له شيئًا. فالتعاطف وحده لا يكفى.. المهم العدل.. فعلى منصة العدل وحدها تعود الحقوق.
وصل الرجل إلى قمة اليأس، فما كان منه إلا أن ذهب إلى قبر «نورالدين الشهيد» يقص عليه حكايته، ويشكو إليه مظلمته، ويبكى، على مدار عدة أيام ظل الرجل يفعل ذلك، حتى اشتهر أمره بين الناس، ووصل خبره إلى صلاح الدين الأيوبى. ارتبك السلطان حين سمع أن الرجل يذهب إلى قبر نورالدين ويحثو التراب فوق رأسه، ويمزق ثيابه، ويستغيث، كما يحكى «ابن تغرى بردى»، قائلًا: «أين أيامك يا نورالدين». أرسل «صلاح الدين» من يأتيه بالرجل، فجاءه، استقبله السلطان بالترحاب، وطيّب خاطره، وأعطاه ماله كاملًا غير منقوص، فما كان من الرجل إلا أن انخرط فى نوبة بكاء أعتى وأكبر، الأمر الذى تعجب له «صلاح الدين» ومن حوله. سأله السلطان: ما يبكيك وقد أنصفناك؟ فقال: إنما أبكى على ملك- يقصد نورالدين- أنصفت ببركاته وبعد موته، كيف يأكله التراب ويفقده المسلمون؟
جواب موجع سمعه «صلاح الدين» من الرجل الذى زاد تبجيله للسلطان «نورالدين» الذى كان ينصر المظلومين حيًا، وشاء الله أن تحل بركته على الرجل، ويكون سببًا فى رفع الظلم عنه، وهو يرقد بين يدى الله داخل قبره. قد يكون الرجل مبالغًا فى نظرته، لكن يبقى أن المهزوم ابن ظرفه، وهو يتعلق مثل الغريق بقشة، إذا أنقذته لا بد أن يتعامل معها بمنتهى الاحترام والتبجيل. أما السلطان صلاح الدين فبقدر ما انزعج كإنسان من أن يظل واحد من الرعية وفيًا لذكرى السلطان السابق، ويبكى على أيامه، إلا أنه تعلم درسًا مهمًا من الواقعة، ملخصه أن ذكرى العدل هى كل ما تتبقى فى سيرة الحاكم، فمهما بنى وعمّر، أو جاهد وانتصر، أو منح وأعطى من يستحق ومن لا يستحق، فإن ذلك كله يُنسى ولا يبقى فى وجدان البسطاء سوى ذكريات العدل، وعدم تمكين طبقة الحكم من الأمراء من ظلم الرعية، وتطبيق الأصول والقانون على الجميع. يشهد على تعلم صلاح الدين الدرس تلك الجملة التى يصف بها «ابن تغرى بردى» فتحه دمشق التى كان يحكمها «نورالدين»، ومن بعده ولده الملك الصالح إسماعيل، ويقول فيها: «دخل صلاح الدين دمشق ففتحها عناية لا عنوة»، إذ أغدق الأموال على أهلها ونشر العدل بينهم، فأحبه الناس.
كأن العدل لا ينسى.