الأمير المغامر
عباس بن أبى الفتوح، أمير من بنى تميم ملوك المغرب، جاء إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى «الظافر»، يحركه طموح التحقق داخل بيئة سياسية كانت تعانى كل المعاناة من «الفراغ»، نتيجة الصراعات الحادة التى شهدتها نهايات الدولة الفاطمية، والتى أعلت قانون «البقاء للأقوى والأسرع إلى قتل منافسه»، على ما عداه من قوانين، وذلك خلافًا للبيئة السياسية المستقرة التى سادت المغرب حينذاك، وشحت معها فرص الصعود للطموحين من أمثال «ابن أبى الفتوح».
رحب الخليفة «الظافر» بعباس وجعله وزيرًا له، ومن خلالها تمكن من التسرب إلى الأمراء والوزراء والسيطرة عليهم بما يسديه إليهم من عطاءات وخدمات، وفى الوقت نفسه نشأت علاقة غير طبيعية بين «نصر» نجل الأمير «عباس» والخليفة «الظافر»، وأصبح الخليفة لا يقوى على البعد عن «نصر».
بدأت الأقاويل تتناثر حول هذه العلاقة العجيبة، حتى وصلت إلى مسامع الوزير «عباس»، فاغتم أشد الغم. بدأ غضب «عباس» يظهر على وجهه وبانت ملامحه للخليفة، فقرر الأخير ألا يستدعى «نصر» إليه، بل أن يلتقيه فى داره التى بالسيوفيين.
هنالك لم يجد «عباس» بدًا من التحرك، فالتقى ابنه «نصر» وصارحه فى الأمر، وحدثه عن كلام الناس حول لقاءاته المريبة بالخليفة، وأن هذا الأمر كدره كل الكدر، وأزعجه كل الإزعاج، وحذره من مغبة ذلك على مستقبلهما السياسى بالبلاد، أخذت الشاب «نصر» الحمية، وقال لأبيه: «أيرضيك قتله؟» فرد «عباس»: أزل التهمة عنك كيف شئت. أعد «نصر» بالاتفاق مع أبيه كتيبة إعدام، كان سبق واستخدمها «عباس» فى قتل أبرز منافسيه «الوزير ابن سلار». وخرج الخليفة كما تعود للقاء «نصر» فى بيته بالسيوفيين، وتربصت به الكتيبة، وما إن اقترب، حتى انقضوا عليه وعلى من معه، فقتلوا الجميع، ودفنوهم فى بئر بالقرب من منزل «نصر».
اختفى الخليفة «الظافر» فجأة، وأخذ أهل القصر يبحثون عنه، واستنتج الناس أن ثمة جريمة وراء اختفائه، وأن الضالع فيها الوزير عباس، بسبب العلاقة المريبة التى ربطت بين الخليفة ونجله. وبدأ أكبر الوزراء المنافسين لعباس فى ذلك الوقت «طلائع بن رزيك» يغذى الأحاديث التى تقول بذلك، بل بدأ فى التحرك وحشد الناس ضد «عباس»، ولبس السواد، وحمل شعور النساء حرم الخليفة على الرماح، فتفرق الناس من حول «عباس»، ولم يعد يراه أحد فى طريق إلا ويسبه ويلعنه، ومن كان يقف فى شرفة يلقى عليه شيئًا يؤذيه به، إلى حد أن ألقى عليه ذات مرة «هاون نحاس»، لكنه أفلت منه.
تحرك «عباس» بسرعة فى محاولة لترميم الموقف، ودخل قصر الخليفة، وطلب من مدير القصر الاستئذان فى مقابلة «الظافر»، وكأنه لا يعلم شيئًا. كانت الأخبار قد وصلت بالطبع إلى القصر، وكان الكل يعلم أن «عباس» وولده «نصر» هما من قتلا «الظافر»، وأولهم مدير القصر، فما كان منه إلا أن ذهب إلى شقيقى الخليفة: يوسف وجبريل، وحكى لهما ما وصل إلى مسامعه من أن «عباس» قتل الخليفة بالاتفاق مع ابنه، وأن القاتل يقف بالباب يطلب مقابلة «الظافر». فطلبا منه أن يعود إليه ويواجهه بما سمع. وما إن قال مدير القصر قولته حتى هاج «عباس» وماج، ورد عليه قائلًا: كذبت يا عبد السوء.. إنما أنت مبايع أخويه يوسف وجبريل، اللذين حسداه على الخلافة فقتلاه. رد المدير: معاذ الله. فسأل «عباس» فأين هما؟ فخرجا له. فسألهما بجرأة: أين الخليفة؟. فردا: حيث يعلم ابنك نصر.. فرد بثبات متهمًا إياهما بقتله، وفى لمح البصر أعطى الأوامر لغلمانه بقتل الأميرين فقتلوهما. عندئذ ارتعب مدير القصر، سأله «عباس»: أين ابن مولانا وولى عهده؟.. يقصد الأمير عيسى بن الظافر، وكان عمره سنتين أو خمس سنوات.
كان الغلام عند جدته، فدخل إليه «عباس»، وحمله على كتفه وأخرجه للناس، قبل رفع جثتى عميه القتيلين، وبايع له بالخلافة، ولقبه بالفائز. نظر الطفل إلى القتلى والدماء، فتفزع واضطرب، ودام مدة خلافته لا يطيب له عيش من هذه الصدمة، وظل مريضًا بالصرع حتى مات. وكان أول قرار اتخذه «عباس» بعد ذلك هو تعيين نفسه وزيرًا أول للخليفة الطفل، وقد أذعن كل من فى القصر للرجل بعد أن رأوا الأميرين القتيلين، ومشاهد الدماء، وعلم الجميع أن الدخول فى مواجهة مع الوزير المتسيد قد لا تحمد عقباه.
الجميع كان يعلم الحقيقة، لكنهم جبنوا عن مواجهة «عباس»، ولم يجدوا سبيلًا أمامهم إلا الاتصال بعدوه الأكبر ومنافسه العتيد الوزير «طلائع بن رزيك» الذى تحرك من البهنسا، وأخذ وجهته نحو القاهرة. وما إن علم «عباس» وولده «نصر» باقترابه من القاهرة، حتى قررا الهرب، بعد أن انفض الجميع من حولهما، وقصدا الشام. ودخل «ابن رزيك» القاهرة وسيطر عليها دون قتال، وكان أول شىء فعله إخراج جثة «الظافر» ومن معه من البئر القريبة من بيت «نصر» بالسيوفيين، فشيعها فى جنازة مهيبة. وتكفل الصالح طلائع بن رزيك بالخليفة «الفائز» ودبر أحواله.
أما عباس ونصر، فقد هربا نحو الشام بأموال لا حصر لها، وعلمت بذلك أخت «الظافر»، فراسلت الفرنج بعسقلان، وقدمت لهم الكثير من المال، مقابل قتل عباس وابنه، وقد كان، فقتل الفرنج «عباس» واستولوا على ماله، وأرسلوا ولده «نصر» فى قفص من حديد إلى مصر. استلمته أخت «الظافر»، وعذبته قبل قتله عذابًا أليمًا، ثم صلب على باب زويلة، ثم أنزل وأحرقت عظامه.