اعتداء على «الحجر الأسود»
فى كل زمان يظهر بين الناس مَن يثرثر بكلام عن طقوس الحج، ويتعجب من تقديس المسلمين الحجر الأسود، والطواف حول بيت الله الحرام، ويرى فى ذلك استعادة لبعض المشاهد التى كان يأتيها عرب مكة قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. ويبدو أن هذا اللغو بدأ بشكل أساسى أيام «الحاكم بأمر الله»، الخليفة الثالث من خلفاء الدولة الفاطمية، وانتقل منه إلى جماعة من المصريين تبنوا ما تبناه. دأب هؤلاء على الحديث عن أن الحجر الأسود يمثل صنمًا معبودًا لدى الحجيج من المسلمين، وأن من الواجب تحطيمه، كما تحطمت أوثان الكعبة.
فى سنة ٤١٣ هجرية وبعد وفاة الحاكم بأمر الله، وتولى ولده «على» الملقب بـ«الظاهر لإعزاز دين الله» الخلافة الفاطمية وقعت تلك الحادثة المدوية، التى انتشرت أخبارها فى أنحاء مصر، وسجلها «ابن تغرى بردى» فى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة». فبعد وصول وفد الحجيج المصريين إلى مكة المكرمة فى ذلك العام، اقترب رجل منهم من «الحجر الأسود»، وهو يحمل دبوسًا فى يده، واستقبل الحجر وأخذ يضرب وجهه بالدبوس، وهو يردد: «إلى متى يُعبد هذا الحجر؟ ولا محمد ولا على يقدران على منعى عما أفعله. إنى أريد أن أهدم البيت وأرفعه». وأمام حالة الهيجان التى انتابت الرجل ابتعد عنه الناس خوفًا من أن يطعنهم بالدبوس الذى يحمله فى يده. كما أن الرجل لم يكن بمفرده، بل ظهر عشرة رجال معه مدججين بالسلاح، يحولون دونه ودون من يحاول منعه، لكن واحدًا من حجاج اليمن احتسب نفسه لله، وهجم عليه يمنعه من الاعتداء على «الحجر الأسود»، واستطاع الإمساك به، هنالك اندفع عدد كبير من الحجاج فأحاطوا بالرجل ومن معه، وأوسعوهم ضربًا، وأسفرت المعركة عن قتل المعتدى.
ينقل «ابن تغرى بردى» أن هذا الرجل ومن معه يمثلون مجموعة ممن أغواهم الحاكم بأمر الله بأفكاره حول الدين. قد يكون ذلك كذلك، وربما كانت للحاكم وجهة نظر فيما يتعلق بتبجيل الحجر الأسود، والطواف حول البيت الحرام، ولو صح هذا الكلام فإنه يعنى حالة من الخلط الشديد وقع فيها «الحاكم»، ومن اقتنع بوجهة نظره تلك، لا تقل عن حالة الخلط التى تصيب البعض من حين إلى آخر حين يرددون الكلام نفسه. والخلط هنا يحدث بين مفهومى التبجيل من ناحية والعبادة من ناحية. فالمسلمون لا يعبدون الحجر الأسود، وقد كان السؤال الذى طرحه الرجل المأفون بطل الحادثة: «إلى متى يُعبد هذا الحجر؟» فى غير محله. فمن قال إن أيًا من حجاج بيت الله الحرام يتعامل مع الحجر الأسود كمعبود؟ المسألة مسألة تبجيل، أساسها توجيه النبى صلى الله عليه وسلم، حين أمر المسلمين بذلك. ومنذ فجر الإسلام كان الجميع يعلمون أن نظرة المسلم إلى الحجر الأسود هى نظرة تبجيل، لها حكمتها عند الخالق العظيم. ولعلك تذكر أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كان يردد أمام الحجر الأسود: «والله إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبّلك ما قبلتك». فالمسألة ليست عبادة فى الأول أو فى الآخر.
ومسألة تبجيل الموروث مسألة عرفتها كل الشعوب، بل والديانات، ولا تمثل فى تجربة الإيمان الإسلامى استثناءً، أو خروجًا عما تعارف عليه البشر. فكل الشعوب- مع الفارق فى التشبيه طبعًا- تتعامل بنوع من التبجيل والاحترام مع ما تركه الآباء والأجداد من آثار، فما بالك بما يؤمن المسلم بما تركه أنبياء الله من مقدسات، مثل البيت الحرام الذى رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم وولده نبى الله إسماعيل عليهما السلام؟. وقد يرد بعض المتحذلقين بالقول إنه لا يوجد دليل تاريخى أو علمى على ذلك، وعلى هؤلاء قبل الثرثرة بهذا الكلام أن يأتوا لنا بدليل عكسى يقول بغير ذلك، فالنفى وحده لا يكفى إلا بإثبات النقيض والتدليل والبرهنة عليه.
وأكرر أن التبجيل هنا أبعد ما يكون عن العبادة. فالمسألة فى بيت الله الحرام تتعلق بما يحمله من رمزية الامتثال لأمر الله بقصده والحج إليه، ورمزية البقعة الواحدة التى يتجمع فيها من آمن بالله ورسوله: «ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام»، والرمزية مصدرها الروح التى تؤمن والمشاعر التى تتفاعل وتحس. وأغلب من توجهوا إلى النيل من الحجر الأسود أو من البيت الحرام استهدفوا ضرب هذه «الرمزية»، دون أن يدركوا أن جوهرها هو قلب المؤمن وليس الحجر أو البناء. قبل واقعة الرجل الذى حاول الاعتداء على الحجر الأسود فى عصر الحاكم بأمر الله، تمكن القرامطة من سرقة الحجر من الكعبة، وأخفوه لعدة سنوات، لم يتوقف فيها الحج، لأن الرمزية قائمة، وقد عاد الحجر بعد ذلك إلى مكانه، وقبل ذلك تهدم البيت الحرام فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، بسبب السيل الذى ضرب مكة، ثم أعيد بناؤه. وفى عصر الدولة الأموية أقدم الحجاج على ضرب البيت الحرام بالمنجنيق، حين احتمى به عبدالله بن الزبير، فتهدمت جدرانه، ثم أقيمت بعدها.
أسفرت حادثة ٤١٣ هجرية عن مصرع المعتدى على الحجر الأسود، ومعه عدد من المصريين، حين ثارت ثائرة الحجاج عليهم، وتبادلوا الطعن فيما بينهم، وأنكر على بن الحاكم بأمر الله ما حدث، وكذلك فعل كل من سمع بالخبر، وكان أغلبهم ممن لم يروا فى حياتهم مشهد الكعبة أو الحجر، لكن تبجيلهما كان قائمًا فى النفوس: «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب».