احتمالات مفتوحة
اقتراح وزير التراث الإسرائيلى بضرب غزة بقنبلة نووية يصلح عنوانًا على أزمة إسرائيل، ورغم تبرؤ بنيامين نتنياهو من الوزير وتصريحه إلا أن أثر التصريح سيستمر، غضب نتنياهو سببه أن التصريح يضر صورة إسرائيل التى تروجها كضحية لما تسميه «إرهاب الفلسطينيين» ويكشف صورتها الحقيقية.. الذين شاهدوا فيلم «جولدا» الذى يسجل أحداث حرب العبور ١٩٧٣ سيتذكرون مشهدًا مشابهًا.. فى أول أيام الحرب وعقب الانتصارات الكبيرة للجيشين المصرى والسورى انهار وزير دفاع إسرائيل موشيه ديان وذهب ليقترح استخدام السلاح النووى ضد مصر وسوريا، ولأن جولدا كانت تدرك أن الاتحاد السوفيتى لن يسمح بهذه الحماقة فقد نهرت موشيه ديان وطالبته بأن يحصل على إجازة، وكلفت رئيس الأركان بقيادة المعركة بعد أن أخبرته بأن موشيه ديان «قد انتهى».. بغض النظر عن تدخل أمريكا بعد ذلك لدعم إسرائيل فإن التفكير فى السلاح النووى هو علامة أزمة وعدم قدرة على تحقيق انتصار بالسلاح التقليدى..من الماضى إلى الحاضر أظن أن اقتراح وزير التراث الإسرائيلى هو علامة على أزمة إسرائيل وعدم قدرتها على حسم الوضع فى غزة.. مر ما يقرب من ٢٩ يومًا على تفجر الأحداث ولم تعد رهينة واحدة باستثناء الأربع رهائن الذين تم الإفراج عنهم بوساطة مشتركة بين مصر وقطر لدى حماس، اقترب عدد الشهداء من عشرة آلاف شهيد غزاوى، منهم ثلاثة آلاف ونصف طفل، والمحصلة تقريبًا «صفر انتصارات» بالنسبة لإسرائيل.. إذا لم أكن مخطئًا فثمة تخفيض لسقف الطموحات الإسرائيلية والتى بدأت بأهداف عامة مثل «القضاء على حماس واقتلاعها» وانتهت بمطالب أكثر تحديدًا مثل اغتيال مسئول حماس فى غزة «يحيى السنوار».. مسارعة نتنياهو بإدانة تصريح وزير التراث المتطرف تعنى أن إدارة بايدن لا تريد تحمل المزيد من آثام التنكيل بالمدنيين فى غزة أمام الناخب الأمريكى.. تتمنى الإدارة الأمريكية لو حققت إسرائيل كل أهدافها بسرعة شديدة قبل أن تنتبه شعوب العالم للمجازر، لكن الواقع يقول إن إسرائيل ستستغرق وقتًا أطول بكثير.. دون شك فإن موقف مصر الصلب عرقل تنفيذ إسرائيل أهدافها فى غزة.. رفضت مصر تهجير أهل غزة وتصفية القضية الفلسطينية وقاومت ضغوطًا سياسية واقتصادية كبيرة ما زالت مستمرة حتى الآن.. لولا هذا الموقف الأخلاقى والوطنى والعروبى لكانت إسرائيل تمرح فى أرض خالية تنفرد فيها بالفصائل الفلسطينية وتشبع شهوتها للانتقام.. صلابة الجبهة الداخلية فى مصر لا تعنى أن الضغوط على مصر قد توقفت لحظة منذ يناير ٢٠١١ وحتى الآن.. ما نجح الغرب فى تحقيقه مع سوريا وليبيا والعراق بالقوة يحاول تحقيقه مع مصر بالضغط الاقتصادى الدائم.. قوة الجيش المصرى لم تسمح بتنفيذ سيناريوهات تم تنفيذها فى دول مجاورة، وعلاقة الشعب والجيش أفسدت مخططات زراعة الميليشيات المسلحة والتى تمت بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ بشكل واضح وصريح، لم تتوقف الضغوط الغربية لحظة واحدة وعملت على إضعاف مصر خارجيًا وداخليًا، الدعم غير المحدود لسد النهضة، ثم تفتيت التحالف العربى، وإصدار الأوامر للدول الداعمة لمصر بالتوقف عن الدعم، ثم أوامر أخرى لصندوق النقد بعرقلة المفاوضات وإيقاف التمويلات، وعى الشعب المصرى بما يحدث أضفى صلابة على الجبهة الداخلية، وقوة الدولة المصرية جعلتها تتعامل مع الضغوط بصلابة واحترافية تليقان بجيش الشمس، كما كان المصريون القدماء يسمون جيشهم.. فى الغرب، والجنوب، والشمال الشرقى كانت مخططات استفزاز واضحة وتجنيد عملاء، ومحاولات لتغيير حقائق راسخة حول مناطق نفوذ الأمن القومى المصرى.. تم تجنيد أطراف إقليمية للتمويل والتنفيذ على الأرض لكن العقل المدبّر كان هناك فى الغرب.. الجيش المصرى هو آخر الجيوش العربية الباقية، فضلًا عن أنه أكبرها وأقواها تسليحًا وما تبقى للعرب هى شركات فى صورة دول وميليشيات يسهل وصمها بالتطرف والإرهاب.. لذلك يشكل جيش مصر عقدة لدول الغرب ومصدر خوف دائمًا لإسرائيل رغم احترافية القرار المصرى والتزامه بأعلى معايير الثبات الانفعالى.. تضع مصر كل الاحتمالات أمام أعينها وترفع درجة الاستعداد والتدريب لأقصى درجة ممكنة للتعامل مع التحديات المختلفة بما يصون الأمن القومى المصرى وثوابت السياسة المصرية لأقصى درجة ممكنة.. بغض النظر عن مزايدات بعض الأطراف الفلسطينية فإن الجميع يعرف أن الوضع كان سيكون أسوأ بكثير لولا موقف مصر الصلب والقوى.. المطالبة بفتح المعابر مع تجاهل وجود قوات الاحتلال على الجانب الآخر ورفضه فتح المعابر هو مغالطة تنطوى على مراهقة سياسية.. تتحدث صحف الغرب عن احتواء المساعدات التى أتت من أنحاء العالم لمطار العريش على مواد يمكنها مساعدة حماس على مزيد من القتال مثل «مكثفات الأكسجين»، لذلك تصمم على تفتيش المساعدات فى الجانب الإسرائيلى من معبر إيرز.. وفق تصور إسرائيل فإن حماس ترسل لنفسها من أوروبا ما يلزمها للقتال فى صورة مساعدات إنسانية، وهو ما يمنح المتربصين بحماس فرصة للقول إنها تزيد من معاناة أهل غزة لأن كل ما تكتشفه إسرائيل من مواد يمكن استخدامها عسكريًا يعطل وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها بالفعل.. الوضع متشابك بكل تأكيد وكل الاحتمالات مفتوحة على المستقبل، وليس أمامنا فى مصر سوى أن نتكاتف ونسير يدًا بيد وسط مصاعب وضغوط.. تؤكد أننا نسير على الطريق الصحيح وأننا سنصل لغايتنا بإذن الله.