مفكرون يجيبون عن سؤال: لماذا تخلّف العرب عن ركب التقدم؟
تفرض المتغيرات المتسارعة التى تشهدها المنطقة العربية منذ عقود، والتى كان أحدثها تأجج الصراع بالأراضى الفلسطينية عقب انتهاكات كبرى، على المفكرين والمثقفين العرب، التحليل الهادئ والتأمل البانورامى للأحداث الراهنة فى سياقها الممتد من الماضى نحو المستقبل. من هنا تكتسب التحليلات الفكرية أهميتها فى فهم أبعاد وجذور مشكلات تبدو مستعصية فى سياقها الحاضر، غير أنها حين يُنظر إليها فى سياقها الأشمل يزول عنها غموضها وتتضح ملامحها، وربما قد يصير من السهل التنبؤ بمستقبلها.
فى كتابين صدرا حديثًا هذا العام، لا تغيب مشكلات العالم العربى، على رأسها القضية الفلسطينية، عن تحليل اثنين من أبرز المفكرين العرب بالوقت الراهن، هما: برهان غليون وفهمى جدعان. فبعيدًا عن التحليل السياسى الذى قد يقصر عن إدراك مختلف الأبعاد، تُلقى التحليلات الفكرية المباشرة وغير المباشرة الضوء على سؤال المصير ورهانات المستقبل فى ضوء ما شهده العالم العربى منذ قرنين، وصولًا إلى اليوم.
يكاد المثقفون العرب يتفقون على أن بداية اصطدام العالم العربى بفكرة الحداثة قد بدأت مع المدافع النابليونية التى دقّت حصونهم قبل ما يقرب من قرنين، لتُفيقهم من سباتهم وحالة التردى الحضارى التى كانوا قابعين بها غير مدركين المتغيرات الكبرى من حولهم. منذ ذلك الحين شُغل الوعى الثقافى العربى بسؤال: لماذا تخلّفنا ولماذا تقدموا؟ وما السبيل الذى يمكن من خلاله النجاة من محنة التأخر؟ غير أن الإجابة عن هذا السؤال قد تغيرت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تبعًا للتحولات السياسية والاجتماعية على مدار العقود المتتالية.
«سؤال المصير».. برهان غليون يكشف آثار السيطرة الاستعمارية الباقية فى الشرق
فى كتاب «سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية» يُعيد المفكر السورى برهان غليون تحليل رحلة الفكر العربى مع سؤال الحداثة بمنظور مغاير، فبعد أن أنفق المفكرون العرب عقودًا فى تحليل أزمة الحداثة المجهضة بالعالم العربى، تارة بالرجوع إلى الذات واستقصاء أسباب عجزها عن تبنى ما هو مستحدث، سواء أكانت تلك الذات تاريخية أم دينية أو حتى ثقافية، وتارة أخرى بتحميل نظم سياسية المسئولية كاملة بمعزل عن السياق العام الذى نشأت فيه هذه النظم وتسيّدت- يلجأ غليون إلى توسيع زاوية النظر للإشكالية الفكرية بموضعتها فى سياق أعم وأوسع؛ هو الأولويات الجيوسياسية التى حكمت العالم على امتداد هذين القرنين، وارتباطها بالإرث الاستعمارى السابق عليها والمحدد لها فى الآن ذاته.
يجادل غليون بأن السيطرة الاستعمارية التى وسمت القرون القديمة قبل حقب الاستقلال ظلت آثارها حاضرة وباقية فى البلدان التى استُعمِرت، وأنه لا يمكن إغفال هذا الإرث حال النظر إلى أسباب إخفاق المشروعات الحداثية، فبينما صُنع العالم الحديث منذ القرن السادس عشر على يد القوى الأوروبية الصاعدة، فقد أدى تحويل الموارد إلى المركز الاستعمارى الدور الأكبر فى نقل الرأسمالية الغربية من طور التجارة إلى الطور الصناعى، مقابل تفكيك اقتصادات الدول المستعمَرة وتحويلها إلى الشكل التابع المفتقد للديناميكية الداخلية.
بناء على هذا التاريخ الطويل، قاد الاستعمار إلى تأسيس مراكز الغرب الصناعية المتقدمة مقابل إبقاء قارة مثل إفريقيا حبيسة مشكلاتها التنموية بسبب الاستنزاف البشرى لها على مدار قرون، ما جعل كثيرًا من الدول التى تم استعمارها عاجزة عن الخروج من فلك التردى بعد أن جُرّدت من ثرواتها وخيراتها، وأُجبرت على أن تستمر فى موقع التبعية حتى بعد أن انتهى الاستعمار بشكله الإمبريالى، ما أدى إلى تشكّل نمطى الحداثة؛ الأول هو ذلك المستقل والمتقدم الذى يتبناه الآخر، أما الثانى فهو الحداثة التابعة غير القادرة على التقدم.
وبينما قد يعتبر البعض هذا النبش فى التاريخ القديم لتفسير إخفاق حديث محاولة لتبرئة الذات من مشكلاتها واستكانة لدور الضحية، فإنه على الأرجح أقرب إلى توسيع آفاق الرؤية بعد أن أثبتت الأطروحات السائدة أحاديتها، ومحاولة للرد بصورة مختلفة على المتشبثين بأذيال الغرب والراغبين فى تتبع آثار أقدامهم نحو حداثة منشودة بإغفال السياقات العربية المغايرة.
استمرت آثار الجائحة الاستعمارية تلك على البلدان العربية حتى بعد أن نالت استقلالها، فقد استمرت الدول الغربية الكبرى فى تمديد سيطرتها الدولية وتخلت عن أى مسئولية حقيقية لإنقاذ الدول من تخلفها، بل إنها سعت إلى إغراق الكثير منها فى مشكلات داخلية وإقليمية لضمان سيطرتها ومصالحها، وسعت إلى إفشال معظم محاولات النهوض الحقيقية بالبلدان العربية لتعزيز سيطرتها، ما يفسر ليس فقط تاريخ العقود الأقدم، ولكن أيضًا العقد الأخير بكل ما حفل به من اضطرابات وتعثراث.
يراجع المفكر السورى التاريخ الحديث ليوضح الكيفية التى تم بها وأد كل محاولات الخروج على الدور المحدد بالبلدان العربية، ولا سيما بعد الاستقلال، بناء على الاعتبارات الجيوسياسية بهدف تعزيز النفوذ وبناء التكتلات، والحفاظ على توازنات دولية تصب فى مصلحة الدول الصناعية، وأثر ذلك التاريخ على إخفاق رحلة الحداثة، فضلًا عن تبلور مشكلات لا يزال العالم العربى يعانى منها تعود جذورها إلى السياسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية.
ليست الحداثة رداءً موحدًا يتلبسه طالبوه إن أرادوا خلع أرديتهم القديمة، فبمعزل عن التحديث، ما يعنى إدخال منتجات الحداثة وتبنيها، والذى لم يجد مقاومة تذكر بالبلدان العربية، إذ أدرجت جميع المجتمعات فى منظومة الحداثة بمستويات متباينة، فإن الأشكال الجديدة من الحداثة بقيت معلقة بسياسات الدول والشركات الكبرى المتحكمة فى أجندة السياسة والاقتصاد العالميين، وافتقد تعميم الفكر الحداثى والتوجهات الإصلاحية وجود نخبة تأخذ على عاتقها مسئولية الكفاح تلك، وتُدرك أن مسألة التقدم مرتبطة بشروط سياسية وجيوسياسية وثقافية واعية.
يؤكد غليون أن «تحقيق الحداثة الناجزة، والانتصار على التخلف وما يرافقه من فقر وبؤس وركاكة مادية وفكرية وثقافية، لا يكمنان فى مدى تمثل الفكرة الحديثة أو التعلق بها أو القضاء على التراث الذى لا تتوافق قيمه مع القيم الأخلاقية، ولكنه فى المقابل معركة تاريخية يخوضها كل مجتمع لتغيير شروط اندراجه القسرى فى المنظومات الاقتصادية والتقنية والاستراتيجية والثقافية العالمية.
انطلاقًا من هذه الفكرة، يقدم غليون نقدًا لتركيز جل الأطروحات الفكرية العربية على قضية التراث باعتباره العائق أمام تحقيق الحداثة المنشودة، معتبرًا أن هذه الأطروحات أثبتت أن الفكر العقلانى العربى لم يكن قادرًا على مراوحة مكانه، وأنه ظل عاجزًا عن أى تغيير، بل إنه أعاد أفكار الاستشراق التى أرجعت مسألة تأخر الغرب إلى تمسكهم بالتراث.
من القضايا التى ركز عليها غليون فى معرض تحليله البانورامى لمسيرة الفكر العربى المسألة الإسرائيلية، التى رأى أنها أساسية لفهم تاريخ الشرق الأوسط الحديث ولطبيعة التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية المؤثرة على العالم العربى والحاكمة له.
يعتبر غليون أن حصول اليهود على دولة مستقلة على حساب شعب آخر كان وسيلة السلطات الاستعمارية الأوروبية للتدخل فى شئون الشعوب المشرقية وللحفاظ على نفوذها، إذ هدفت هذه السلطات إلى جعل إسرائيل المشكلة الجديدة التى حلّت محل المشكلة الاستعمارية القديمة؛ لتمرير خياراتها وتأمين مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
ويميل المفكر السورى إلى أن المسألة الإسرائيلية كان من الممكن حلها إن أرادت القوى الغربية، وذلك بتأسيس دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم ودياناتهم، لكنهم تقاعسوا عن تعزيز هذا الحل لخدمة مصالحهم، ولأن الإبقاء على النزاع العربى- الإسرائيلى يخلق بؤرة توتر دائمة فى المشرق العربى، ويعطل الجهود العربية ويستنزف مواردها ويشغلها عن قضايا التنمية الحضارية الرئيسية، كما يوفر القاعدة الاستراتيجية الرئيسية للهيمنة فى الشرق الأوسط.
«معنى الأشياء»..فهمى جدعان يطرح خلاصة أفكاره وتأمله بعد اليأس من المذاهب الجاهزة
بعد عقود ظل فيها المفكر الأردنى فهمى جدعان منافحًا عن أفكار إصلاحية ارتأها استجابة لمتغيرات واقعية، وبعد آمال كبرى بإمكانية توفيق بين تيارات متنافرة سُرعان ما تحطمت على صخرة واقع الرؤى الأحادية لمختلف المذاهب والأفكار، يلجأ جدعان فى كتابه الأحدث «معنى الأشياء: رسالة فى الجوهرى من وجودنا المباشر» إلى كتابة رسالة يُعلن عن أنها «ليست ذات أغراض إصلاحية مباشرة»، وإنما تعبير عما يعتقد بكونه أكثر الأشياء جوهرية ومركزية فى الواقع المعيش.
يعترف المفكر الأردنى بأن كتابه هذا يأتى بعد قنوطه من المذاهب الجاهزة؛ مذاهب الإسلاميين والليبراليين وغيرهما، ومن ثم فإنه يهدف من هذا العمل لا إلى تحديد مسارات نحو الإصلاح أو حتى تحليل الماضى التاريخى على الأصعدة المختلفة، وإنما إلى ما يشبه التأمل الفكرى الفلسفى فيما يهمه هو باعتباره مفكرًا عاصر تحولات كبرى إلى أن استقر على مرافئ استراح لها فيما يخص مسائل جوهرية؛ فلسفية ومعرفية وفكرية وسياسية، تتصل بالإنسان والتاريخ والتراث والنظم الأيديولوجية الفاعلة، والقيم الأخلاقية الحاكمة والحياة والموت.
ولأن المؤلف أراد من كتابه أن يأخذ صورة تفكر ممتد فى شتى المسائل، فإنه لم يعمد إلى تقسيمه إلى فصول، بل اكتفى بتحديد لفقرات هى موضع النظر والتأمل. ذلك الشكل المسترسل من الكتابة استدعى منه بداية التفرقة بين من يمكن تحديده بكونه مثقفًا، وذلك الذى يمكن إطلاق لقب المفكر عليه، فأبان فى هذا الصدد بأن المثقف بينما هو الشخص المعنى بتحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية؛ ما يضفى عليه الشرعية الأخلاقية والمصداقية القيمية، فالمفكر فهو من يُبدع الأفكار ويكشف عن حقائق الأشياء ويتعقلها فى حدود الواقع المعرفى والاجتماعى والأخلاقى والسياسى.
يتوقف جدعان مليًا أمام معنى الدين وما يتصل به من إشكالات عقلية، ثم يعرج صوب إشكالية استغرقت الكثير من الوقت والجهد لدى مفكرين عرب على مدار القرن الماضى، وهى الموقف من التراث، فى هذا الصدد يسعى الكتاب إلى بلورة ما توصل إليه جدعان من أفكار فى معنى الدين بشكل عام، انطلاقًا من كونه مسألة جوهرية لوجوده وللوجود بشكل عام. هنا يوضح أن القول العقلى لا يمكن أن يكون هو طريق الاعتقاد الوحيد، لأن هناك العقل الوجدانى الذى تتصل به ملكات الإرادة والعاطفة والرغبة والشهوة، والذى يمكن من خلاله استقبال بعض أوجه الدين وفهمها.
ومع أن جدعان يؤمن بأن دين الإسلام يعرض تصورًا أخلاقيًا نبيلًا لوجود الإنسان فى العالم، ورؤية أخروية جادة وعادلة، وصيغة للعلاقات بين البشر وحقوق الإنسان إنسانية، فإنه يلفت إلى بعض الصور المُشكِّلة لدين الإسلام التى قادت إلى اختزال الدين فى أحكام شكلانية بدلًا من تركيزها على ما هو جوهرى ويقينى، ومنها ذلك التشكيك الذى وُجِّه إلى «الأحاديث النبوية» فى غمرة توجهات الإصلاح الدينى.
يحاول المفكر الأردنى عبر رسالته الموجزة أن يبين قوله فى المسألة بتوضيح أنه على الرغم من وجود الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبى التى تحمل أوهامًا أو أخبارًا غير معقولة، فإن المطالبة بتعليق كامل لكل الأحاديث يبقى غير واقعى وغير معقول، لأن تنحية ما يقوله النبى يقف فى وجه النص القرآنى الذى يطلب الأخذ بما أمر به النبى وترك ما نهى عنه، ومن ثم يحدد جدعان جملة من الشروط التى يدفع استيفاؤها إلى ضرورة الأخذ بالأحاديث، وهى عدم تعارض الحديث مع القرآن، ومطابقته أحكام العقل، وموافقته للقيم الأخلاقية العليا، وكذلك مطابقته للحقيقة العلمية.
يسهب جدعان فى النظر بمسألة الدين من جوانب شتى، ويولى اهتمامًا خاصًا بدعاوى القطيعة مع التراث، فيفنّد تلك الدعوة ويبين تهافتها من عدة جوانب، فمن جهة يظل للتراث وظائف علمية ونفسية وجمالية لا يمكن التخلى عنها أو نسيانها، ومن جهة أخرى فالدين برأيه ليس سوى أحد جوانب التراث، ومن العبث المطالبة بمحو كل ما يضمه من جوانب لأنه جزء من تطور الوجود الإنسانى ذاته، ما يجعله يصل إلى ضرورة تحويل التراث إلى ثقافة معيشة بنقله من نقاش النخبة إلى مرحلة التثقف العام عن التراث.
يقيم المفكر الأردنى مراجعة نهائية لجهود الفكر النهضوى العربى على امتداد تاريخه، فيشير إلى أنه رغم تباين مسالك المفكرين العرب منذ عصر النهضة الأولى، سواء ارتأى بعضهم الرجوع إلى التجربة التاريخية أو رأى آخرون ضرورة اتباع المدنية الغربية، فقد كان جميعهم مسكونًا بواقع الهوة الحضارية وراغبًا فى تجاوزها، ومع ذلك فقد غلبت عليهم، حسبما ينتهى جدعان، «رؤية أحادية» تعول على عامل واحد لتحقيق التقدم المنشود.
أما التيارات الفكرية بعد الاستقلال فى النصف الثانى من القرن العشرين، فقد وجهتها قضايا سياسية وتغيرات كبرى، ما جعل الصراعات الأيديولوجية فى صدارة المشهد الذى كان يتنازعه نظام الإسلام السياسى والنظام الليبرالى والنظام العلمانى، واختار كل فريق طريق التصادم مع الآخر، ولم تنجح أى محاولة فى تقريب وجهات النظر أو الرؤى لتحقيق مصلحة تنموية وإصلاحية بالعالم العربى.
يوجه جدعان انتقاداته لمختلف التيارات التى ظلت متصارعة؛ فالإسلام السياسى والجهادى عزز من كراهية الدين، أما العلمانيون فقد اختاروا طريق الصدام والاستفزاز، فيما جعل الليبراليون من كلمة «الحداثة» سيّدة القيم الاجتماعية والسياسية، وظلوا يلهجون بها دون تدقيق ويرتفعون بها إلى سدرة المنتهى دون وعى تام بأبعادها.
تلك الانقسامات فى صفوف المفكرين العرب قادت إلى ما هو أسوأ. يتوقف المفكر الأردنى أمام التغيرات التى شهدتها فترة منتصف القرن المنصرم بين تغيرات عالمية جعلت من المعرفة أداة للتدخل الاستعمارى والهيمنة والاستعباد، وليبرالية جديدة جعلت من مبادئ السوق المبدأ والغاية، وجشع رأسمالى بلا ضوابط، وتغيرات عربية بدأت مع حصار فلسطين بالاستعمار، ونظرة دونية باتت متجذرة لكل من هو عربى ومسلم، أمام هذا المشهد يتأمل جدعان موقف المثقفين والمفكرين العرب فيصل إلى أن المثقف والفيلسوف العربىّ قد تحلل من كل أصالة وإبداع، وغاب عنه أن الثقافة أو الحضارة الغربية التى يجرى القوم خلفها فقدت كل الأسس والمقومات النبيلة العليا التى قامت عليها.