إرادة صلبة وضغوط مضجرة!
قلبى مع بلدى فى كل وقت لكنه معها أكثر فى هذه الأيام، الجميع يمسك فى ذيل مصر ويريد أن تحل له مشاكله، علاقة مصر بما حولها يلخصها المثل الشهير «فى الهم مدعية وفى الفرح منسية».. الإسرائيليون يتظاهرون أمام سفارة مصر هناك كى تساعدهم فى الإفراج عن الرهائن، والحمساويون يدعون للضغط على مصر لفتح المعابر.. لولا الحياء لتظاهروا ضدنا هم أيضًا.. عدوان يكره كل منهما الآخر كراهية التحريم، لكنهما يتفقان على لوم مصر والضغط عليها ومطالبتها بحل المشكلة، التى أحدثها كل منهما لنفسه أولًا وللآخر ثانيًا.. مفهوم طبعًا أنهما لا يستويان لدينا، وأن قلوبنا وعقولنا مع فلسطين.. لكن المفارقة تدعو للسخرية.. تصلح نواة لكوميديا سوداء.. عدوان لا يجمع بينهما شىء سوى لوم مصر والضغط على مصر والمزايدة على مصر.. الإسرائيليون أوقفوا تصدير الغاز فى وقت بالغ الحساسية للضغط على مصر.. وجهوا شظايا دانة دبابة تجاه برج مراقبة مصرى، فحذرتهم مصر من تكرارها ورفضت اعتذار إسرائيل وأبلغتها بأنها تحتفظ بحق الرد.. لكن هذا التصرف التافه والعدائى من إسرائيل هو أيضًا ضغط على مصر.. أطلقت جهة ما فى البحر الأحمر صاروخين تجاه إيلات، لكن إسرائيل اعترضت الصاروخين بحيث يسقطان فى مصر.. لست خبير صواريخ لأعرف هل هذا متعمد أم لا.. لكننى أعرف أن الإسرائيليين ليسوا طيبى القلب وأنقياء السريرة.. لو نجحوا فى دفع مصر لعقاب الجهة التى أطلقت الصاروخين، فهذا «عين المنى وعز الطلب».. لكن مصر تحفظ هذه الألاعيب مثل كف يدها.. الرئيس «بايدن» يتصل بالرئيس السيسى كثيرًا هذه الأيام، وعقب كل اتصال يصرح رئيس مصر «لم» و«لن» نوافق على تهجير أهل غزة إلى مصر.. «لم» حرف جزم يفيد نفى أمر وقع فى الماضى؛ بمعنى أننا لم يسبق أن وافقنا على الفكرة أبدًا.. و«لن» حرف نفى يفيد المستقبل.. والمعنى أننا لا ننوى أن نوافق على الفكرة فى المستقبل.. بعض الصياغات الصحفية قالت إن «الطرفين» اتفقا على رفض التهجير.. وأنا أكاد أجزم بأن مصر هى التى رفضت، وأن أمريكا استسلمت لموقفها الحاسم، ولو وافقت مصر لكان هذا بالنسبة لأمريكا «عين المنى وعز الطلب».. موقف مصر صلب وشجاع ومبدئى وحاسم.. لذلك لا يكتفون بحرماننا من حزمة الإغراءات التى رفضناها، ولكنهم يواصلون الضغوط بشكل مضجر، وربما مثير للاشمئزاز.. توقفت صادرات الغاز لمصر.. ويتلكأ صندوق النقد الدولى منذ شهور طويلة فى منح مصر تمويلات متفق عليها بالفعل.. يذهب مسئولوه هنا وهناك.. يطلقون تصريحات ويعلنون عن مراجعات ويتحدثون عن اشتراطات.. ولا ينفذون شيئًا لأن المطلوب هو مواصلة الضغط على مصر.. الأمر نفسه ينطبق على ١٤ مليار دولار أخرى كانت مرتبطة بصندوق النقد توفرها بعض الصناديق العربية.. تأخرت هى الأخرى لأنها مرتبطة بضوء أخضر من أمريكا والغرب، وأمريكا والغرب يريدان الضغط على مصر، ومصر لا تقبل الضغوط فيما يتعلق بسيادتها وسلامة أراضيها.. والمعنى أننا نحافظ على السلام ولا نحصل على الرخاء الذى هو المقابل المنطقى للسلام.. والمعنى أننا نحافظ على استقرار الشرق الأوسط، ولا نحصل على عوائد الاستقرار فى الشرق الأوسط.. والمعنى أننا حرفيًا رجل المطافئ الوحيد فى هذه المنطقة، لكننا نعامل معاملة من يُشعل الحرائق لا من يطفئها بالفعل.. فما الذى يمنعنا من أن نغضب ونشعل الحرائق بالفعل.. لو لم نكن الوحيدين الذين نملك إطفاء الحريق لما وضع الإسرائيليون وحماس معًا آمالهم علينا، ولما لامونا على أننا لا نحل لهم مشاكلهم.. الحمساويون يحمّلون مصر مسئولية عدم دخول المساعدات، فى حين أن إسرائيل هى التى تخرب المعبر حتى لا تدخل المساعدات.. وأسر المختطفين لدى حماس يتظاهرون ضد مصر حتى تساعدهم، فى حين أن سياسات إسرائيل هى التى قادت ليوم ٧ أكتوبر أولًًا، وحماس هى التى اختطفت الإسرائيليين ثانيًا.. فلا مصر هى التى دفعت الفلسطينيين إلى الانفجار، ولا هى التى اختطفت الرهائن.. لكنها مطالبة بأن تحل مشاكل كل الأطراف.. وأن تدفع ثمن جميع المواقف.. الحمساوية يريدون إدخال المساعدات والوقود ويزايدون على مصر رغم كل جهودها.. والإسرائيليون يريدون أن نحرر لهم الرهائن، وبالمرة نستضيف أهل غزة فى سيناء ونحل لهم القضية من بابها.. وبعض المواطنين فى العالم العربى يغرقون فى بلهنية العيش ويمددون أقدامهم فى مياه المحيط والخليج، لكنهم يريدون من «المصاروة» أن يفتحوا الحدود! وكأن مصر مطالبة بأن تدفع ثمن كل شىء.. ثمن ظلم البعض للبعض، وثمن حماقة البعض ضد البعض، وثمن شح البعض، وثمن خيانة البعض، وثمن جهل البعض.. وثمن مزايدة البعض.. لك الله يا مصر، وعلى من يمارسون الضغوط أن يتقوا غضبة مصر لأنها ستكون غضبة الحليم إذا غضب.