أزمة خطاب أم أزمة تخاطب؟
كنت أظن دائمًا أن النخبة السياسية المصرية تعانى من أزمة «خطاب».. لكن التطورات الأخيرة بين بعض أفرادها نبهتنى إلى أن النخبة تعانى من أزمة «تخاطب» وليس من أزمة «خطاب».. على الأقل هذا ما تشى به التطورات فى آخر أسبوعين.. «الخطاب السياسى» له تعريف علمى وهو أنه يستخدم من قبل فرد أو جماعة أو حزب سعيًا للحصول على سلطة معينة عند حدوث صراع أو خلاف سياسى.. لنفترض مثلًا أن الانتخابات القادمة هى «الصراع السلمى» على السلطة.. وأن تيارًا ما له رأى فيها.. بالتالى هو سيصوغ خطابًا حول الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية سعيًا للفوز فى هذه الانتخابات.. هذا هو ما يحدث فى كل الدنيا ويكون «الموضوع» فيه هو البطل لا «الشخص».. لا شخص المعارض صاحب الخطاب هو البطل ولا شخص صاحب السياسة المراد نقدها هو البطل.. البطل هو «الموضوع».. هل هذا يحدث لدينا؟ لا، لا يحدث لدينا ولا بنسبة واحد فى المائة.. كثير ممن يتصدون للعمل العام فى الآونة الأخيرة يطرحون قضيتهم وكأن لديهم ثأرًا شخصيًا يريدون تصفيته، ويتجاوزون انتقاد السياسة لتجريح شخص صاحب السياسة، ويرتكبون جرائم قانونية تقع كلها فى إطار السب والقذف واغتيال السمعة.. تعال نتحدث عن آخر خلاف فى التيار المدنى الديمقراطى الذى أكن لكثير من قياداته احترامًا كبيرًا.. هذا التيار يضم قوى من أقصى اليسار لأقصى اليمين.. وبالتالى من المنطقى أن تكون أفكار رموزه أو أعضائه متناقضة وبالذات فى القضايا الكبرى مثل التطبيع مع إسرائيل وتأييد الغزو الأمريكى للعراق.. إلخ.. تفجر خلاف كبير يكشف عن أزمة «تخاطب» وليس فقط عن أزمة «خطاب».. والمعنى أن الكثير من رموز النخبة لدينا ليست لديهم القدرة على صياغة خطاب عام سليم يفصل الشخصى عن الموضوعى، ويصل للهدف دون أن يتطرق للشخصية نفسها.. كان هناك تصريح يكشف عن عدم ارتياح أحد رموز التيار المدنى لآخر طرح نفسه للعمل العام.. كانت صياغة التصريح الصحفى أقرب للعامية.. وبدا أنها مرتجلة وعبرت عن عدم الارتياح تجاه شخص ما لأنه «بتاع تطبيع»!.. هذا كلام صحيح.. لكنه ليس خطابًا سياسيًا مع شديد احترامى لصاحبه.. الخطاب السياسى معناه أن يعلن القيادى أنه يتحفظ بشدة على تصدى فلان للحديث باسم التيار الفلانى نتيجة مواقفه المعلنة بتأييد سياسات كذا وكذا ولقائه بالرئيس الفلانى الذى ارتكب جرائم كذا وكذا ضد الإنسانية.. هذا خطاب سياسى موضوعى لا يشخصن الأمور ولا يجرها لمواضيع شخصية.. تعال ننتقل للطرف الآخر.. التصريح الذى اتهم «فلانًا» بأنه «بتاع تطبيع» صادف شخصية غارقة فى شخصنة الأمور، ولهذا أسباب شخصية، فضلًا عن عدم وجود أى خلفية فى العمل السياسى والجماهيرى الحقيقى، فضلًا عن الغرق فى أوهام الحماية الغربية والأمريكية تحديدًا، وهكذا سارع لمزيد من شخصنة الأمور، واتهم زميله باتهامات يعاقب عليها القانون وتوجب احتقاره لدى بنى وطنه، واستند لتحقيق تم إغلاقه، وحصل فيه الوزير الأسبق على براءة.. إنه مزيد من الغرق فى شخصنة الأمور والغرق فى الشخصنة بدلًا من صياغة خطاب موضوعى سياسى تكون الأفكار فيه هى البطل.. فكرة أمام فكرة ورأى أمام رأى.. هذا الشخص متهم بالولاء لإسرائيل وهذه هى الأدلة.. وإذا كان لديه رد فى الموضوع فليرد.. والحكم للناس.. مضت الأمور فى التصاعد بشكل هستيرى.. تم تقديم بلاغ سب وقذف ضد المخطئ قانونًا.. واصل صاحبنا شخصنة الأمور.. رفض دفع مبلغ الكفالة، واشتبك مع رجال الشرطة الذين يقومون بالإجراءات وتقدموا هم أيضًا ببلاغ مدعم بشهادة الشهود ضده.. إنها مواصلة لشخصنة الأمور لأقصى درجة.. ممارسة للسياسة على طريقة العصور الوسطى.. أبوزيد الهلالى يحارب الزناتى خليفة.. رامبو جديد يتحدى زملاءه فى التيار المدنى ويتحدى الشرطة ويتحدى الحكومة.. وهلم جرًا.. فى حدود ملاحظتى.. الموضوع أصلًا بسيط.. لم يعترض أحد على ما يقوم به الرجل منذ أشهر قليلة.. الملاحظة الوحيدة كانت لإعلامى انتقده لأنه يظهر فى قنوات الإعلام.. ومع ذلك لم يمسه أحد.. لو التزم هذا الرجل بصياغة خطاب موضوعى لما تعرض له أحد، ولما أحس زميله بالألم من تجريحه لشخصه وتقدم ببلاغ ضده، ولو فكر بموضوعية لاكتشف أن أمين الشرطة الذى حاول إهانته مجرد موظف عام ينفذ القانون، وأنه لا يعرفه بشكل شخصى وأنه إن لم ينفذ قرار النيابة فسينفذه أى زميل له.. لكننا إزاء نخبة يعانى بعض أفرادها من قصور فى التفكير.. ومن خلط شديد بين الذاتى والموضوعى.. وهذا ليس مقصورًا على المعارضين ولكن على بعض المؤيدين أيضًا وهو ما سنناقشه فى مقال قادم.. أن النخبة لا تعانى فقط من أزمة خطاب ولكنها تعانى من أزمة تخاطب.. وهذه مشكلة كبيرة.