العبقرى العادى!!
بقدر مصرية نجيب محفوظ كانت عبقريته، وبقدر بساطته كان لمعان موهبته.. جسّد فى حياته كل القيم التى يعيش عليها المصرى العادى من خفة الظل إلى الدأب، ومن التسامح إلى الاعتداد بالنفس بغير عنجهية أو ادعاء.. حرص على الوظيفة الحكومية حرص رجل شريف لا يعرف طريقًا للكسب إلا العمل، وحرص على استقلاله الفكرى حرص أديب كبير يوقن بأن كلماته باقية بقدر ما أبدع فيها.. هو ليس من علامات قوة مصر الناعمة، ولكنه هو نفسه قوة مصر الناعمة.. حين يحصى سجل الأفذاذ فى الثقافة والفن يوضع محفوظ مع طه حسين وأم كلثوم فى الصف الأول، وبعد ذلك يأتى الآخرون.. جسدت حياته قصة شخص باحث عن الحرية والكرامة والسلام، كما كتب على لسان بطله صابر سيد الرحيمى فى رحلة بحثه عن المجهول رواية الطريق.. ولد فى قلب القاهرة الفاطمية حيث عصارة التاريخ والتراكم وامتزاج الحضارات والتدين الصوفى الذى ورث خلاصة فهم المصريين للدين.. كان أبوه تاجر غلال على طراز السيد أحمد عبدالجواد الذى حمل ملامح الأب والابن معًا.. كانت والدته أستاذته الأولى ومن خلال حكاياتها الشفهية أدرك سحر أن يحكى المرء.. حمل اسم طبيب النساء القبطى نجيب باشا محفوظ الذى عالج والدته ودفع لذلك ثمنًا غاليًا فيما بعد.. كان طفلًا محبًا للحياة ولاعب كرة وعضوًا فاعلًا فى شلة العباسية التى خلد شخوصها فى الكثير من كتاباته.. التحق بقسم الفلسفة فى بداية الثلاثينيات ليجيب عن أسئلة الحياة الكبرى كما قال كمال عبدالجواد لوالده وهو يبرر التحاقه بكلية المعلمين.. حرمه اسمه من الالتحاق ببعثة يستحقها لأوروبا حيث ظن موظف متعصب أنه قبطى وأن الأقباط قد نالوا نصيبهم من البعثات فى ذلك العام.. واجه المأزق بالمزيد من العمل وترجم أول كتاب له عن مصر القديمة عام ١٩٣٥ وعمره ٢٤ عامًا.. انضم لكتاب «المجلة الجديدة» وتتلمذ على سلامة موسى وخلده فى رواية السكرية تحت اسم عدلى كريم.. حين تولى الشيخ مصطفى عبدالرازق وزارة الأوقاف عينه فى الوزارة لكنه ظل حريصًا على الابتعاد عن الحزبية والسياسة، وحين ترك أستاذه الوزارة نقلوه لوظيفة متواضعة لكنه استغل الوقت فى تثقيف نفسه وأدرك أن قيمته ليست فى الوظيفة التى يشغلها.. حين أصدر رواية القاهرة الجديدة عام ١٩٤٦ كانت مليئة بقصص الفساد فحققوا معه فى الوزارة لكنه كعادته أنكر كل شىء وتم حفظ التحقيق الذى أجراه معه أحمد حسين شقيق أستاذه طه حسين.. كان يقرأ بالإنجليزية والفرنسية معًا وجعله هذا على اتصال وثيق بكل إنتاج العالم الروائى والنقدى وانعكس هذا فى تطور أشكال المعالجات الروائية لديه.. تجاهله النقاد فى البداية فرد بمزيد من العمل، وكانت المفارقة أن أول من كتب عنه كان سيد قطب قبل أن يتحول لمنظر للإرهاب.. ذهب لزيارته بعد الخروج من السجن كنوع من الواجب لكنه كتب فيما بعد أن عينيه كانت عينى قاتل! مع الخمسينيات نال الاعتراف وكتب عنه طه حسين وتوالت الكتابات عن أدبه حتى فاقت العد والحصر.. لم يكن يبالى بالوظيفة أو السياسة لأنه يرى الخلود فى الكتابة.. اصطحبه يحيى حقى إلى مصلحة الفنون فى بداية الخمسينيات، ثم تركه واستقال وحاول ثروت عكاشة أن يضعه فى وظيفة كبيرة تليق بأديب مصر الأول.. لم يكن يسعى لأحد، لكن ثروت عكاشة وحسنين هيكل لعبا الدور الأكبر فى الاحتفاء به ولفت الأنظار لقيمته.. داعبه عبدالناصر فى زيارته الشهيرة للأهرام عام ١٩٦١ وسأله عن ما إذا كان يكتب رواية جديدة عن حى السيدة لكنه قال له.. تقصد سيدنا الحسين؟ تقدم الشيخ الغزالى ببلاغ ضد روايته أولاد حارتنا عام ١٩٥٦ يتهمه بالخروج عن الدين لكنه تقريبًا لم يكترث! كان قد انتهى من كتابة الرواية كما يريد واعتبر أن ما يحدث بعد ذلك تحصيل حاصل!.. طلب منه عبدالناصر ألا ينشرها فى مصر فظل حريصًا على تنفيذ الطلب حتى بعد وفاة عبدالناصر بسنوات.. حين طلبت دار الشروق منه نشرها بعد نوبل اشترط أن يكتب المقدمة لها شيخ الأزهر.. اعتذر الشيخ طنطاوى بلباقة قائلًا إن هذا اختصاص نقاد الأدب لا رجال الدين وصدرت الرواية فى مصر بالفعل بعد أن بر محفوظ بتعهده لعبدالناصر كما يفعل الرجال المحترمون.. وشى به البعض للمشير عامر حين أصدر ثرثرة فوق النيل ١٩٦٦ لكن عبدالناصر تدخل لحمايته قائلًا.. إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟.. قبل أن تظهر كتب التنمية البشرية بعشرات السنوات كان محفوظ نموذجًا حيًا لتنظيم الوقت وتنمية الذات.. كتب عنه صديقه محمد عفيفى مقالًا يصفه بأنه «الرجل الساعة» وقد كان كذلك بالفعل.. يكتب كل يوم لمدة ساعة واحدة من الرابعة للخامسة ويتوقف عن الكتابة فى أشهر الصيف التى يقضيها فى الإسكندرية.. كل شىء يسير بنظام.. العمل الكتابة مقابلة الأصدقاء وحتى التدخين ينظمه بإشعال سيجارة واحدة على رأس كل ساعة بالثانية والدقيقة! جمع بين العمل وحب الناس والانغماس معهم، وكان دائمًا رائق المزاج خفيف الظل مرحبًا بالناس.. بعيدًا كل البعد عن حدة المزاج التى تصاحب بعض المبدعين أو يدعيها بعضهم.. آمن بأن عليه أن يعمل فقط وأن يترك الباقى لله، وحين أخبرته زوجته بفوزه بنوبل ظن أنها تمزح! قد أتفهم خوف وزارة التعليم من تدريس رواياته التى تناقش قضايا الوجود الكبرى لكنى لا أتفهم عدم تدريسها لقصة حياته للطلاب كما درسنا قصة رفاعة الطهطاوى وطه حسين صغارًا.. إن لم تُدرّس للطلاب قصة نبوغ هذا المصرى «العادى» فماذا ندرس إذن؟