حديث البريكس
علمنى أساتذتى فى الصحافة أن كل خبر له دلالة ووراءه قصة وخلف سطوره معنى.. وأن تحليل معنى الخبر لا يقل أهمية عن معرفة الخبر.. هكذا تعاملت مع خبر انضمام مصر لمجموعة «البريكس» بدءًا من أول يناير ٢٠٢٤.. إن هذا الخبر يكتسب أهميته بسبب اللحظة التى جاء فيها.. حيث تتصاعد باطراد حملة دعاية مدفوعة ضد مصر فى الإعلام الغربى، تركز كلها على حالة الاقتصاد المصرى وأزمة العملة الصعبة وتداعيات حرب روسيا وأوكرانيا على الاقتصادات الناشئة.. الأزمة موجودة بالفعل.. لكن هناك خلافًا حول أسبابها.. بعض الصحف الغربية كانت يخفى وجهة النظر الأخرى فى الاقتصاد المصرى وهى أنه اقتصاد واعد.. وأن إمكانات مصر كبيرة وأنه مرشح فى حالة تجاوز الأزمة لأن يصبح من أهم عشر اقتصادات فى العالم.. هذه وجهة نظر أعضاء منظمة بريكس والتى دفعتهم لدعوة مصر للانضمام لعضوية المنظمة التى تضم أكثر الاقتصادات الواعدة فى العالم.. فهى تضم عملاق الاقتصاد العالمى الصين وهى تضم الهند التى أزاحت بريطانيا من مقعد خامس اقتصادات العالم وتضم البرازيل صاحبة معجزة النمو السريع فى العقد الأخير وتضم روسيا وريث الإمبراطورية السوفيتية المشاكس، وبشكل عام فإن البريكس هو الوريث الاقتصادى لما سمى فى الماضى الكتلة الشرقية.. لكنه وريث بارع حصيف يلعب لعبة الاقتصاد قبل السياسة ويلعب لعبة السياسة قبل لعبة الحرب.. فقد اكتشف العالم أن نظام القطب الواحد الذى أجبر عليه منذ ١٩٩٠ لم يحمل له سوى الشرور والغطرسة والهيمنة والغزو العسكرى فراح يعيد تشكيل نفسه وكان للاقتصاد الكلمة الأولى والأخيرة فانطلقت الصين من أرضية حكم الحزب الشيوعى وانطلقت الهند كتجربة ليبرالية وعادت روسيا بمزيج من الاقتصاد والقوة العسكرية وبرزت البرازيل كتجربة خاصة فى التنمية على خلفية يسارية.. ولا شك أن إقدام مصر على الانضمام للبريكس خطوة كبيرة فى تاريخها وفى تاريخ الشرق الأوسط.. بعد عقود طويلة امتدت من السبعينيات حتى ثورة ٣٠ يونيو بدا فيها للجميع أن مصر تسكن بيت الطاعة الأمريكى وأنها تدور فى فلك الولايات المتحدة فى كل المسارات.. أو كان هذا هو الانطباع السائد عند الكثيرين.. الآن تنتهج مصر سياسة جديدة تسعى فيها للبحث عن مصالحها وحقها العادل فى التنمية بعيدًا عن تصورات الآخرين لها.. حيث إن قدرًا لا بأس به من الهجوم على مصر فى الغرب يرجع لأنها تنتهج خطة للتنمية لا تعجب الغرب ولا يوافق عليها ولا يستوعبها لذلك يهاجمها.. لا يتعارض الانضمام للبريكس مع تحالف مصر الاستراتيجى مع الولايات المتحدة وترتيبات الأمن الإقليمى.. حيث هذا مسار مختلف تمامًا حتى الآن ولا تواجهه مشكلات كبيرة.. انضمت مصر للبريكس مع دولتين عربيتين هامتين هما الإمارات العربية والسعودية اللتان توفرت لهما فوائض نفطية عملاقة جراء الأزمة الأخيرة، بينما انضمت مصر بسبب ثقلها الإقليمى والعسكرى وموقعها الهام وهو ما يعنى أن مصر قوية حتى وهى فى ذروة أزمتها الاقتصادية.. وقد شكل التوسع فى الانضمام للبريكس احتجاجًا جماعيًا على استخدام أمريكا للدولار استخدامًا سياسيًا بعد أن فرضته كعملة عالمية موحدة.. ولم يكن بعيدًا عن هذا رفع سعر الفائدة وسحب السيولة الدولارية من الأسواق الناشئة ومنها مصر عقب الحرب الأوكرانية الروسية، فضلًا عن ممارسات أخرى كثيرة ومؤذية للاقتصادات الناشئة.. انضمام مصر للبريكس لا يعنى أن السماء ستمطر ذهبًا ولا فضة.. لكنه أولًا شهادة من دول قوية للغاية بأن مصر تسير فى الطريق الصحيح للتنمية الطموحة.. وهو سيفتح مسارات للتبادل التجارى بعيدًا عن سطوة الدولار.. وسيعطى مصر أولوية فى تأمين احتياجاتها الغذائية وغير الغذائية من دول مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وكلها مصدر للقمح واللحوم والمنتجات الصناعية فى السوق المصرية، وبالإضافة لكل هذا فإن مصر تنفتح على احتمالات تطور «البريكس» المختلفة وتطور دورها فى اتجاهات شتى.. وبشكل عام فإن الخبر خبر إيجابى ومبهج وداعٍ للتفاؤل ومثير للبهجة وهو علامة على أننا نسير فى الطريق الصحيح مهما كان شاقًا وصعبًا.. وهو كذلك بالفعل.