الأسايطة
رواية صادرة عن دار روافد بالقاهرة في 2018.
رواية أجيال تاريخية غير تقليدية. كتبها الصحفي عادل سعد بثبات وحرفية عالية، مستعرضًا مئات الأشخاص من أجيال مختلفة لا يجمعهم رابط واحد سوى انتمائهم لمحافظة أسيوط. خليط عجيب من البشر، تفوق عادل سعد على لورانس داريل بوصفه مدينة الإسكندرية عندما "أصبحت المدينة نهبًا للتراب والذباب"، ولكن مدينة أسيوط عادل سعد أصبحت نهبًا للقتل والموت والدماء والرذيلة وكل فواحش الأرض.
أشخاص من مشارب وديانات وعادات وتقاليد وتصرفات جنونية وعاقلة ولئيمة وغبية وعنيدة. أشخاص تجمع فيهم كل الخير وكل شرور الأرض وأخرجوا أسوأ ما فيهم من قتل وزنا المحارم ولؤم وغدر وتدين وعبادة الله. زنادقة وملحدون ولا أحد يصدق أنهم كذلك من فرط براءتهم التي أظهرهم بها الكاتب.
استثنائية الرواية لم تأت من كون عادل سعد قد اعتبرها أفضل رواياته فقط، ولكن لمجموعة خصائص يقف على رأسها امتلاكه ناصية التقنية الروائية المدهشة فيها.
لا يمكن إغفال الثقافة الموسوعية التي يتمتع بها الكاتب والتي لا يتردد في الإفصاح عنها في الكتابة، إلمامه بالتاريخ المسكوت عنه، والذي نشرته الصحف في قصاصاتها.
ترتكن الرواية إلى مذكرات شهيد هو الصحفي صادق أبوحامد الذي استشهد في 18 يناير في عام 2011 أو ما يعرف بثورة يناير 2011 التي احتفى بها الشعب في أول الأمر، ثم تخلى عنها تاركًا الأمر للإخوان المسلمين، كما سنقرأ في رواية "الأسايطة".
تبدأ الرواية الملحمة بعام 1807. والمكان غرب البلد بمدينة أسيوط، ويقول الكاتب: "أسيوط المدينة الفرعونية القديمة اندثرت، درستها الرياح ويروح ويجىء حولها حمير وجمال وبغال وبشر. والأسيوية مع الأشمونية إداريًا لأعمال منفلوط وجرجا. كانت أسيوط أربعة أكوام مرتفعة، والنيل نهر عجيب أسماكه تصلي، ومن أرض العبيد إلى البحر الكبير أربعين يومًا طولًا في ثلاثين يومًا عرضًا. والطير في السماء، وعلى الأرض. الأخفاف والحوافر والمخالب والأقدام".
ولا نعلم لماذا اختار الكاتب هذا التاريخ، لنعرف أنه في ذلك كان الألباني محمد علي يعتلي سدة الحكم في مصر، ثم يدخل بنا في تفاصيل معارك محمد على لمطاردة المماليك وأعوانهم بتفصيل لا يخلو من خيال وإبداع.
تنهي الرواية كما في مذكرات الشهيد، في 22 يناير 2011، والرواية بالنسبة لنا الآن، كلها زمن ماضٍ، بحاضرها وماضيها. والرواية إن كان يغلب عليها الطابع التاريخي والمعلوماتي، وأحيانًا التوثيقي، فهذه روح الكاتب التي تكتب، فالروائي ليس مؤرخًا، إنما يقدم قراءة لهذا التاريخ بأسلوب فيه بعض التخييل، أو استخدام بعض تقنيات السرد مثل الخطابات أو الوثائق والمخطوطات كما فعل صنع الله ابراهيم في رواية اللجنة ورواية ذات، والكاتب إمبرتو إيكو في روايته "على اسم الوردة"، ويوسف زيدان في "عزازيل". هذا التاريخ في أسيوط 1807 يمكن أن نعتبره بداية ظهور الرأسمالية المسيحية والقبطية في أسيوط. وظهور عائلات لها ثقل اقتصادي في الحياة السياسية، وبعضهم لهم دور كبير في مجريات الأمور في مصر. مثل عائلات خياط وقلتة يتكئ الكاتب على بعض المقولات المتداولة والتي شاعت عن توسط بعض الأعيان لدخول جمال عبدالناصر حسين الكلية الحربية. وتعرض هذا الرجل الوسيط للتنكيل به من قرارات ثورة يوليو بعد ذلك، تلك القرارات التي أثرت على مستقبل مصر الزراعي والاقتصادي لأنها كانت صادرة بدون دراسات عميقة لجدواها على المدى البعيد.
كما يرصد الكاتب شخصيات كثيرة حقيقية أثارت جدلًا في أسيوط وفى مصر كلها مثل عزت حنفي خُط الصعيد. والذي كرمته السينما المصرية بفيلم الجزيرة فيما بعد. ومحاولات التخلص منه وإمبراطور النخيلة، وما وقع منه من أحداث شهيرة وحقيقة شخصية عزت حنفي. وهي الظاهر الجانبية التي ظهرت نتيجة لسياسة كي الشعب بالنار التي انتهجتها الدولة لمقاومة تغلغل الجماعات الإسلامية، مثل نوفل سعدالدين ونشأت في حمرة دوم في قنا.
الشخصيات الطريفة والخيالية، التي اخترعها من خياله الخصب ليضفي على عمله نوعًا من التشويق الجميل، وتنحسر تلك الشخصيات المريضة، التي أصيبت في بمرض عضال خصائصها التناسلية والجنسية، بتاريخ أسيوط العريق، ومن تلك الشخصيات التي رصدها الكاتب مثل خالتي بطة وقشطة وقطة وغيرها من الشخصيات كانت بمثابة لوحات مستقلة داخل الرواية، كما أنها ساهمت في تشكيل لوحة بديعة التكوين بألوانها الجميلة في رواية تجاهلها النقاد، وتجاهلتها وسائل الإعلام.
في الفصل الأخير بعنوان صلاة العقارب، وهو مصطلح بالغ الدلالة على حقيقة تلك الجماعات، مثل مصطلح مدافع آيات الله الذي استخدمه قبله الكاتب الصحفي الشهير عنوانًا لكتابه. يرصد الكاتب كيفية نشأة الجماعات الإسلامية وانتشارها وقوة نفوذها في أسيوط. ويقدم أسماء وأحداثًا حقيقية أبطالها عاصم عبدالماجد وكرم زهدي وناجح إبراهيم وغيرهم.
الرواية أشبه بلوحة كبيرة من الموزاييك أو الأرابيسك. وهي تعد بمثابة ملحمة عن تلك المدينة الفريدة في طبيعتها وطبائع أهلها، كما رصدها الكاتب من خلال الكثير من المراجع التاريخية والكتب البحثية والدوريات.
وحتى يقنعنا الكاتب بأنه يكتب التاريخ فقد قدم لنا في نهاية الرواية عددًا من المراجع التاريخية وبعضًا من الصحف التي كانت تصدر في أسيوط في فترة ازدهارها في ثمانينيات القرن الماضي وما بعده.
تحية للكاتب عادل سعد على هذا العمل الروائي العظيم، الذي أهمله النقاد والأوساط الأدبية لسبب غامض، مع أن العمل يضعه في الصدارة مع كُتاب الروايات التاريخية جورجي زيدان وعلى أحمد باكثير، من الكُتاب العظام.