«طيب وأمير»«سلامة فى خير» فى قالب أكثر كوميدية وحداثة
مرة واحدة لم تكن تكفى لمشاهدة العرض المسرحى الكوميدى «طيب وأمير»، إنتاج المسرح الكوميدى، وكتابة أحمد الملوانى وإخراج محمد جبر، الذى يعرض حاليًا بنجاح كبير على مسرح ميامى، كباكورة إنتاج للمسرح الكوميدى، بعد تولى الفنان ياسر الطوبجى إدارته.
يفجر العرض نوعًا من الكوميديا التى يمكن وصفها بالسهل الممتنع، فرغم بساطة العرض على مستوى الطرح الفكرى والمعالجة الفنية، إلا أن تلك البساطة هى التى تغريك بالعودة لمشاهدة العرض مرة ثانية وثالثة.
عرض «طيب وأمير» بمثابة معالجة كوميدية حديثة لفيلم نجيب الريحانى الشهير «سلامة فى خير»، ذلك الفيلم الذى احتل مكانًا مميزًا وسط كلاسيكيات السينما المصرية وفى ذاكرة المتفرج المصرى، فكيف استطاعت مسرحية «طيب وأمير» أن تغامر بأن تضع نفسها فى مقارنة مع منتج فنى حاضر وحى فى ذاكرتنا حتى هذه اللحظة.
فيلم «سلامة فى خير» هو أحد أفلام نجيب الريحانى الشهيرة، طُرح عام ١٩٣٧، وهو من إنتاج «ستوديو مصر»، وإخراج نيازى مصطفى، وكتب نجيب الريحانى وبديع خيرى السيناريو والحوار، وهو عن قصة مسرحية «الزائرون» للكاتب الفرنسى ساشا جيترى، نفس القصة التى أعاد كتابتها السيد بدير ليقدمها فريد شوقى فى فيلم بعنوان «صاحب الجلالة».
وركزت معالجة القصة فى «سلامة فى خير» على فكرة الطبقة الاجتماعية وأبعادها الثقافية والانخداع بالمظاهر، حيث البطل سلامة يعمل ساعيًا فى شركة ملابس، ولديه صراع دائم مع جاره الخوجة المتعالى الذى يسكن فوقه، والذى يعامله دومًا معاملة سيئة ومتعالية.
يحصل «سلامة» على مبلغ من الشركة ليودعه فى حسابها، ولكن بسبب مشكلة تحدث مع الجار تضطره للذهاب للقسم، ولا يستطيع اللحاق بالبنك، ويصادف أن صاحب الشركة قد أغلق المحل ومنح الجميع إجازة بمناسبة إنجاب زوجته مولودًا بعد ٢٠ عامًا من الانتظار.
ويسيطر على «سلامة» الخوف من اللصوص، حين يعود للمنزل ويعرف أن اللصوص سرقوا النحاس، فيقترح عليه أحد أصدقائه الذهاب إلى أحد الفنادق، وإيداع المبلغ فى خزينة الفندق على سبيل الأمانة، لكن يسىء العاملون فى الفندق تقديره، بسبب مظهره البسيط ويطردونه.
وتلعب المفارقة دورها فيظنه مدير الفندق الأمير قندهار ويحتفى به، ويعجب الأمير الحقيقى بفكرة أن يؤدى «سلامة» دوره، مراهنًا مساعده على أنه سيخدع الناس بالمظاهر وبريق المال والسلطة.
اختار نجيب الريحانى وبديع خيرى للفيلم اسم «أفراح»، ولكن اقترح عليهما أحمد سالم المنتج، اسم «خير فى خير»، إلى أن استقروا على اسم «سلامة فى خير»، الذى يبدو لى أنه كان أكثر اتصالًا مع طرح مسرحية «طيب وأمير».
وركزت المعالجة السينمائية فى «سلامة فى خير» على فكرة الطبقة والمظاهر الخداعة، وعالج أحمد الملوانى قصة المسرحية، مركزًا على قيمة الأخلاق والطيبة وحسن النية، وكيف أن الإنسان المصرى البسيط الطيب المتمسك بمبادئه ما زال له تقديره.
وأنه رغم كل المتغيرات الاجتماعية ما زال فيه الخير، وما زال أمينًا منحازًا للخير، حتى لو أصبح الشائع اعتبار الطيبة وصمة وسبة، حتى لو اضطرنا الخلل الاجتماعى ربما للتزيى بزى ليس زينّا، واستجدت علينا إحداثيات التكنولوجيا وانزياح الطبقات ورواسب أزمات الحروب والضغوط الاقتصادية، وغيرت فى سلوكنا اليومى، إلا أن الأصل يظل طيبًا خيرًا أمينًا.
وهذا ما فعله «سعيد» موظف الحسابات الأمين الذى يعمل فى مصنع سيراميك «على بلاطة»، ويثق فيه صاحب المصنع ثقة كبيرة لتحصيل الأموال من العملاء وعقد الصفقات أكثر مما يثق فى ابن أخيه.
ويكلفه قبل سفره بتحصيل مبلغ مليون جنيه من شركة «سلامة»، إلا أنه فى أثناء إيداعه المبلغ، يتعرض لسرقة موبايله ويلتقى مرزوق الذى يفرض نفسه على حياة سعيد، ويصر على اصطحابه لعمل محضر سرقة فى قسم الشرطة، حتى تغلق البنوك.
وكما سيطر على «سلامة» الخوف من احتمالات السرقة فى منزله، تسيطر على «سعيد» ذات المخاوف، فيذهب إلى الفندق لذات الغرض، حيث يلتقى مع «غندور» أمير سرستان، والذى يطلب من «سعيد» أن يلعب دوره لفترة وجيزة، وذلك حتى يتمكن من التحرك بحرية، وحتى تتاح له فرصة التأكد من أن الفتاة التى أحبها من النظرة الأولى: «هالة» «مديرة العلاقات العامة فى الفندق»، تحبه لذاته وليس لكونه أميرًا.
ويؤدى «سعيد» مهمته بشهامة حتى حين يتعرض لمحاولة اغتيال، بوصفه الأمير الذى يرغب فى الانتقام لأبيه واستعادة الإمارة، وفى العملين ينتهى الأمر بانتصار الخير على الشر ومكافأة الطيبين الخيرين، سواء كان هذا الطيب أميرًا أو غفيرًا.
وعالج الكاتب أحمد الملوانى والمخرج محمد جبر القصة معالجة كوميدية معاصرة، تعتمد على كوميديا الموقف والإفيهات الذكية دون ابتذال ولا تنميط، حيث تم التركيز على الجوانب الإنسانية فى شخصيات العمل، سواء كانت مثالية أو شريرة، فهى شخصيات حية نابضة لا تقع فى فخ النمطية الذى عادة ما يكون خيارًا مطروحًا ومقبولًا فى الكوميديا.
واستطاع العمل الحفاظ على خصوصية كل شخصية فى المسرحية، سواء كبر حجم دورها أم صغر، ولم يجعل أيا منها خيرًا صرفًا ولا شريرًا صرفًا، وقد استطاع المخرج محمد جبر أن يغلب خفة الظل بطريقة حساسة ذكية، حتى إن الابتسامة لا تفارق وجهك طوال العرض.
ومحمد جبر من أفضل مخرجى الكوميديا الذين يجيدون ضبط إيقاع مسرحياتهم، والكوميديا هنا تعتمد فى الغالب على الإيقاع المحكم المنضبط، كما حقق بإتقان خلطة جمعت بين الكوميديا والاستعراض والأغانى، تلك الخلطة الجماهيرية المحببة لدى قطاع كبير من المصريين.
ومحمد جبر من المخرجين الذين يتيحون للممثل امتلاك كل أدواته فى إتقان الشخصية، وتفجير المشاعر والكوميديا المتصلة بطبيعة دوره.
وجاء أداء نجوم العرض متشبعًا بالشخصيات وغير نمطى، ففى شخصية «سعيد» لا يفاجئنا الفنان هشام إسماعيل، فكما اعتدنا هو ممثل لديه إمكانات كبيرة ومتنوعة، تؤهله لأن يلعب العديد من الأدوار.
وهو لا يكرر ذاته أبدًا، بل يتشرب شخصيته جيدًا، حتى تصبح هى مصدر الضحك أو البكاء، ولن تستطيع أن ترى هشام إسماعيل أو أيًا من شخصياته السابقة فى دور مشابه لـ«سعيد».
أما الفنان عمرو رمزى، فقد جاء أداؤه على المسرح بسيطًا سلسًا عكس ما يعانيه الأمير غندور من تعقيدات متعلقة بكونه أميرًا، فى حين هو شخص بسيط طيب محب للحياة ورافض للقيود.
وكذلك جاء أداء الفنان تامر فرج فى دور «مسرور» سكرتير الأمير، فيكشف عن ممثل مسرحى ممتلك لأدواته الصوتية الجسدية، ومتحكم فيها كما ينبغى، وجاء أداء الفنان شريف حينى مميزًا جدًا ينبئ عن ممثل طاقته غير محدودة، متعدد الألوان ومتنوع فى أدائه وفى تفجيره الكوميديا، ويبشر بنجم كوميديا قادم.
أما الفنان أحمد السلكاوى فهو ممثل المسرح الذى يستطيع فى حضوره أن يبتلع أى حضور آخر، فقد طوع صوته وأداءه الجسدى ليؤدى شخصية «الشرير» بأداء الساخر من نمطية الشر، وعمل على أن يظهر الطبيعة المزدوجة للشرير الذى يتصارع الخير والشر داخله.
أما شيماء عبدالقادر، فكانت مذهلة فى تجسيد دور الفتاة المتأثرة بعالم الكارتون، فى مقابل أداء نهى لطفى الفتاة النسوية التى ترفض أن تُعامل كأنثى.
وكان أداء الممثلين فى كل الأدوار مميزًا وعاكسًا لأبعاد الشخصية، مثبتين أن حجم الدور ليس هو المحك فى ظهور الممثل وإبرازه الشخصية، فتحية للفنانين: جلال الهجرسى ومحمود أمين الهنيدى ومحمود فتحى ومحمد لوركا، والممثلة رانيا النجار التى لعبت دور الممثلة «زنويبيا»، ككوميديانة متمكنة.
وجاءت عناصر تشكيل الصورة بسيطة ومنسجمة، كما تتناسب مع الكوميديا الأزياء لأميرة صابر، والديكور لحمدى عطية، والإضاءة لأبوبكر الشريف، كما كانت الاستعراضات لأسامة مهنا رغم تقليديتها موظفة توظيفًا دراميًا وموضوعيًا جيدًا نابعًا من أن الطيبة فى هذا العصر هى نوع من السذاجة، وحتى نصل إلى إعادة الاعتبار للطيبة، وأن على الطيب أن يكون فخورًا بطيبته.
وجاءت أشعار طارق على لتصوغ الفكرة ببساطة فى نهاية المسرحية، بغناء عماد حسن وألحان كريم عرفة، كلمات ولحن لا بد أن يعلقا فى مسامعك حتى بعد خروجك من العرض: «على وضعك خليك طيب.. لو حتى فى ناس بتعيب.. ده العادى الدنيا بتحسب إن الطيبة دى كان يا ما كان.. حواليك شر بكمية.. وأنت الواحد فى المية.. لكن أنت بحسن النية هتطلع فى الآخر كسبان».
وحقق العرض نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، ليس فقط بسبب تميز العمل الفنى، بل لعبت الدعاية المبتكرة دورًا هامًا فى نجاحه، حيث اعتمدت دعاية العرض على تصوير المتفرجين وهم يضحكون أثناء المسرحية، وتم نشر صورهم على صفحة العرض، ما أغرى المتفرج بنشر صورته وتنفيذ دعاية إيجابية للحدث.
لذا وجبت الإشادة بدور القائمين على الدعاية: أحمد نور ومحمد فاضل مسئول «السوشيال ميديا»، والمصور البارع جرجس صبحى.
فى النهاية، يعكس نجاح هذا العرض انضباط رؤية مدير المسرح الكوميدى ياسر الطوبجى فى تقديم عروض تتفق وهوية المسرح الكوميدى، وتراعى فى الوقت ذاته جدية والتزام مسرح الدولة، كما يمثل خطوة جديدة وثابتة فى إنفاذ خطة البيت الفنى للمسرح، التى أعلن عنها الفنان خالد جلال منذ عدة أشهر.. فتحية لهما.