التسويق السياسى ونظرية «القطط الفاطسة»!
من آن لآخر تظهر أصوات هنا وهناك تتهم الحكومة بأنها تفتقر للحس السياسى.. لا أؤيد هذه الأصوات ولا أعارضها.. فما تقوله قد يكون حقًا يراد به باطل.. وقد يكون حقًا يراد به حق.. وقد يكون باطلًا يراد به باطل.. والحكم على أصحابها يكون وفق الحديث الشريف «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى».. لا أحكم على الحكومة حكمًا عامًا مطلقًا، وإنما أتوقف عند بعض ملامح عملها بالنقد حينًا وبالتأييد حينًا.. حسب كل موقف.. وأنا أظن أن من سلبيات العمل الحكومى حاليًا افتقار الوزارة لمهارة التسويق السياسى، وهو علم كبير يدرس فى الجامعات وله خبراؤه فى الداخل والخارج.. وفكرته ببساطة أن تشرح الحكومة للناس الجهود التى تقوم بها من أجل التنمية، وأن ترد بالمعلومات على الهجوم الذى تتعرض له بعض المشروعات من طرف أو آخر.. والفكرة هنا أن المبادرة بالتسويق السياسى للمشروع هى نوع من الوقاية المبكرة وصد الهجمات المحتملة وحماية الرأى العام من التضليل الذى يقوم به البعض، مستغلين تفضيل الحكومة للعمل فى صمت ولعدم شرح ما تقوم به وربما مفاجأة الناس بالمشاريع وهى تنفذ على الأرض.. لنأخذ مثلًا مشروع توسعة طريق صلاح سالم وربط مناطق القاهرة الكبرى ببعضها البعض عبر عدد من المحاور.. إن هذا، بلا شك، مشروع ممتاز تستدعيه الضرورة والزيادة السكانية المفرطة.. وتستدعيه أيضًا عملية تحويل مصر لمركز تجارى عالمى يتوسط المسافة بين شرق العالم وغربه.. لقد استدعى هذا المشروع نزع ملكية بعض المقابر القديمة التى أصبحت تتوسط القاهرة وعلى بُعد دقائق من ميدان التحرير.. لكن عملية توسيع المحور تعرضت لألوان فاحشة من التشويه والافتراء.. من أول الادعاء بأن الحكومة تهدم الآثار إلى الادعاء بأنها هدمت مئذنة جامع إلى الادعاء بأن شواهد المقابر الأثرية تم تهريبها للخارج إلى الادعاء بأن البلدوزرات حطمت المقابر قبل نقل الرفات.. ومع كل هذه الشائعات ظلت الحكومة تلتزم الصمت.. وكأنها بطل من أبطال الملاحم الشعبية يتألم فى صمت وينتظر أن يعرف الناس قيمة ما يقدمه لهم فى نهاية الملحمة!.. إن هذا جميل جدًا على مستوى المثل والقيم.. لكنه للأسف ليس مناسبًا فى عالم السياسة.. إن السياسة بشكل عام أمر غير أخلاقى بدرجة ما.. ولكنها ضرورة.. روى أن تشرشل الزعيم البريطانى كان يزور المقابر فقرأ لافتة تقول «هنا يرقد السياسى والرجل الشريف فلان الفلانى»، فعلق ضاحكًا من العجيب أن يتم دفن شخصين فى قبر واحد! بمعنى أن السياسة والشرف لا يجتمعان فى نظر ذلك السياسى العجوز والمخضرم.. ولكن للأسف فإن الحكومة يجب أن تمارس السياسة وأن تضع خططًا للتسويق السياسى للمشروعات الكبرى وتشرح للناس فوائدها.. إننا الآن فى العام العاشر من حكم ثورة ٣٠ يونيو العظيمة.. وما كنا نخفيه فى البداية خوفًا من أهل الشر.. لا داعى لأن نخفيه الآن.. لقد بدأت الدولة منذ أول عام لحكم الرئيس السيسى فى سلسلة لا تنتهى من المشاريع القومية.. لكنها كانت تعمل فى صمت.. حتى إننى علقت على ما تفعله الدولة وقتها بأنه نوع من الإنجازات السرية!.. كان لذلك وقتها مبررات جديرة بالتفهم.. مثل الحرب على الإرهاب ووجود عناصر موالية للخارج والمواجهات الإقليمية وقتها مع الدول الحاضنة للإرهاب.. وطبيعة عمل الرئيس السيسى قبل توليه الرئاسة والتى تقوم على السرية الكاملة وإعلان المعلومة بالقدر الكافى فقط.. ولكن الحقيقة أننا هزمنا الإرهاب وروضنا الدول الحاضنة له، ومرت بنا أزمة عالمية مزدوجة أصبحت تستدعى أن تشرح الحكومة للناس كل ما يجرى من مشاريع والهدف منها والعائد الذى سيعود على الأجيال القادمة لو نجحت خطة تحويل مصر لمركز اقتصادى عالمى.. منذ سنوات طويلة كنت أجرى حوارًا فكريًا مع مفكر كبير.. تطرق الحديث للزواج فقال لى إن علاقة الزوج والزوجة الناجحين هى علاقة تفاوضية طوال الوقت.. فالعلاقة فى الشباب غير العلاقة فى الشيخوخة.. والعلاقة والزوجان صحتهما جيدة غير العلاقة وأحدهما مريض.. والعلاقة والزوج يحصل على دخل كاف غير العلاقة والزوج عاطل عن العمل... إلخ.. والذكاء أن يعيد الزوجان التفاوض بينهما كلما تغيرت الظروف كى تستمر العلاقة.. وما لم يقله المفكر الكبير إن هذا التفاوض يحدث فى كل البيوت كل يوم دون أن نسميه تفاوضًا.. لذلك تستمر العلاقات الزوجية.. العلاقة بين الدولة والمواطن أشبه ما تكون بعلاقة الزواج هذه.. والعلاقة فى زمن اليسر غيرها فى زمن العسر.. وفى زمن الرخاء غيرها فى زمن الشدة.. والحكومة مرغمة على اتباع برنامج تسويق سياسى يشرح خطة الدولة فى التنمية.. ويشرح للناس لماذا يحدث ما يحدث حولهم.. وما جدوى المشاريع التى يتفرغ البعض لتشويه كل مشروع منها بطريقة «تطليع القطط الفاطسة» وهو تعبير شعبى يقال لوصف حالة التربص دون أى سند موضوعى.. لكن الحقيقة أن الحكومة تعطى الفرصة للأعداء حين تلتزم الصمت فى الوقت الذى يجب فيه الكلام.. وحين لا تعلن المعلومات للدرجة التى يصعب حتى على مؤيديها والواقفين فى مشاريعها الدفاع عن هذه المشاريع.. وحين لا تشرح للناس ضرورة هذه المشاريع وعلاقة كل مشروع بالآخر ودور كل مشروع فى الوصول للصورة النهائية لمصر التى نحلم بها جميعًا.. إن الأمر أشبه بمكعبات البازل.. كل مشروع يمثل مكعبًا من هذه المكعبات.. ولو ساعدت الحكومة المواطن فى تركيب المكعبات ورؤية الصورة كاملة فسيشعر بالفخر ويجد مبررًا للصبر.. أما إذا تركنا الآخرين يركبون له مكعبات البازل بطريقة خاطئة.. أو يخفون بعض المكعبات كى يرى المواطن اللوحة مشوهة وناقصة.. فهذه غلطتنا نحن بقدر ما.. على الحكومة أن تجتهد فى تطبيق علم التسويق السياسى لمشروعاتها، فالعلم دائمًا رابح فى مواجهة الجهل، والتخطيط دائمًا رابح فى مواجهة الفوضى.. والتواضع دائمًا رابح فى مواجهة الغرور.. ونحن نريد لحكومتنا أن ترفع راية العلم فى مواجهة الجهل، والتخطيط فى مواجهة دعاة الفوضى، والتواضع فى مواجهة من يتهمونها بالغرور.