نسب الأطفال الحائر بين فتاوى العصر العباسى ونتائج الـDNA
انتشرت بين الناس قضية رجل مغترب قال إنه اكتشف خيانة زوجته أثناء سفره؛ وإنه شكك في نسب الأطفال بينهما، وإنهم ليسوا أبناءه من صلبه، إنما أبناء شريكها في الخيانة، وإنه خضع هو والأطفال لفحص الـ«دي إن إيه» عدة مرات والذي نفت نتائجه صلة الأبناء موضوع الشكوى بالشاكي بيولوجيًا والتأكيد على استحالة أبوته لهم.
كان من الممكن أن تنتهي القضية عند هذا الحد، وأن تنتفي صلة الرجل بأبنائه؛ وأن تستدعى الزوجة والعشيق؛ وتؤخذ منهما العينات ومطابقتها مع العشيق ليتبين صلة الأطفال به، مع التحقيق الحازم مع الأم لتقر بأبيهم الحقيقي لينسبوا إليه، فليس لهم ذنب في جريمة ارتكبها غيرهم.
لكن أن يخرج علينا بعض المشايخ ليؤكدوا بوجوب الأخذ بحديث «الولد للفراش وللعاهر الحجر» في نسب الأطفال إلى الزوج مع علمه يقينا بأنهم ليسوا من صلبه بالتحاليل، استنادًا إلى آراء فقهية يعود آخر اجتهاد فيها إلى العصر العباسي!!
هل هذا يعقل؟!!
إن الأحكام الشرعية نوعان: قطعي وظني.
القطعي هو الأحكام التي جاء بها حكم قاطع لا مجال معه للاجتهاد لأنه جاء بنص قرآني أو حديث صحيح متنًا وسندًا، كأحكام الزنا وشرب الخمر والسرقة والقتل.. فلا يستطيع كائنًا من كان أن يحلل تلك الأحكام فيقول إن الزنا أو شرب الخمر أو السرقة حلال عند بعض أو جمهور الفقهاء، فهي أحكام لا اجتهاد فيها.
أما الأحكام الظنية؛ فهي ما اجتهد فيه الفقهاء؛ واتفقوا واختلفوا فيه لعدم وجود نص قطعي، فأعملوا الاجتهاد بشروطه الواجبة.
هؤلاء الفقهاء، الذين لهم منا كل تقدير واحترام، أعملوا عقولهم واستخدموا الأدوات الشرعية والمادية المتاحة في زمنهم لإخراج ما اجتهدوا فيه وإخراج فتاويهم كما وصلت إلينا.
ولكن ماذا عن فقهائنا المعاصرين مع استحداث وسائل واختراعات تثبت الحق، وتعطي لكل ذي حق حقه؟!
ماذا عن الـ«دي إن إيه» الذي يثبت أو ينفي النسب، فإن أثبت، ارتاح قلب الزوج وأقبل على أبنائه بكل ود وحب؛ وإن نفى، فقد انتصر لعدم خلط الأنساب وما يستتبعها من حقوق في الميراث والنفقة.
أعجب للشيوخ الذين يصرون على حديث الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يلتفتون لقول الله تعالى في سورة الأحزاب الآية 5 (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ).
أو الأخذ بحادثة الصحابي هلال حينما اتهم زوجته بالزنا مع أخيه غير الشقيق ونفى نسب طفله؛ وبعد إجراءات اللعان أعطى الرسول، صلى الله عليه وسلم، لبعض الصحابة صفات للطفل قال إن وجدوها فإنه ابن هلال، وصفات أخرى إن وجدوها فإنه ابن اخيه؛ وهذا نص الحديث كما ورد بالبخاري:
«عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هِلَالَ بن أُمَيَّةَ، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بِشَرِيكِ بن سَحْمَاءَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البَيِّنَةَ أوحَدٌّ في ظَهْرِكَ»، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «البَيِّنَةَ وإلا حد في ظهرك» فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلَيُنْزِلَنَّ الله ما يُبَرِّئُ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فقرأ حتى بلغ: {إن كان من الصادقين} [النور: 9] فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها، فجاء هِلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعلم أن أحَدَكُمَا كاذب، فهل منكما تائب» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوهَا، وقالوا: إنها مُوجِبَة، قال ابن عباس: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فَمَضَتْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها، فإن جاءت به أَكْحَلَ العينين، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ الساقين، فهو لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ»، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن».
إن ما دفعني لكتابة هذا المقال فيديو لأحد الوعاظ الشباب الذي أصر على إثبات بنوة الأطفال للأب استنادًا للحديث وتشكيكًا، على غير الحقيقة، في نتائج الـ«دي إن إيه» كوسيلة علمية لإثبات الأنساب ونفيها.
كانت حجة الواعظ الشاب أن ذلك أحفظ للأطفال ونفسيتهم، لكن ماذا عن الأب ونفسيته؟! وهل سيتعامل معهم بود ورحمة أم بروح الانتقام ؟! وما ذنبه في أن يثبت له من ليسوا صلبه وهو يعلم يقينًا من أبوهم الحقيقي؟ وهل يترك أصحاب الجرم المشهود يهربون من مسئولياتهم تجاه أبنائهم أم أنهم اكتفوا بلحظات المتعة الحرام، لا سيما أن الشريك اعترف وقال إن هناك آخرين؟!
هل لو كان فضيلة الواعظ الشاب أو أي واعظ أو شيخ محتمل في مكان الزوج المنكوب كان سيفعل ما أفتى به ويقبل نسب الأطفال إليه؟
لماذا الإصرار والوقوف على فتاوى اجتهد وافتى بها أصحابها طبقًا لظروف وادوات عصرهم!!
لماذا لا يعيد علماؤنا وفقهاؤنا المعاصرون النظر في تلك الفتاوي وتجديدها بما استحدث من أدوات تساعد في الوصول إلى الحق.
إنني كمواطن مسلم حريص على دينه أدعو فضيلة شيخ الأزهر وفضيلة المفتى والسادة الأفاضل علمائنا من أعضاء الفتوى ومجمع البحوث لإعادة النظر في قضايا النسب ووسائل إثباته.
ولنا في الطلاق الشفهي وقفة أخرى.