أجانب أحبوا مصر [5]
السان سيمونيون في مصر
هم مجموعة المهندسين الشباب، وبينهم أطباء، بلغ عددهم 80 شخص من الفرنسيين بالإضافة إلى تلاميذهم من المصريين، وصلوا في صورة جماعات متعاقبة في عصر الوالي محمد على، وكثيرون كانوا مجرد عابرين، أقام بعضهم سنوات في مصر، والبعض منهم مات ودفن فيها وصار لبعضهم نسل يعيش معظمهم في مصر بفضل أبنائهم واحفادهم.
كانت الفلسفة الفرنسية في ذلك الوقت تبحث عن قوانين تفسير الكون بشكل متناغم مع اكتشاف قوة البخار والثورة الصناعية التي اجتاحت أوروبا، لأجل هذا فكرت تلك المجموعة في مصر. كانت مصر تبهرهم بماضيها المثير وما يعدهم به مستقبلها، كانوا يبحثون عن التعاون الأخوي بين كل الأمم وكل الطبقات الاجتماعية وتداخل والتحام كل الأجناس، كان لديهم ايمان راسخ بعبقرية نابليون بونابرت، وكان حلمهم أن يزاوجوا بين الجنس الأسود والجنس الأبيض. تبنوا مقولة نابليون " عن طريق مصر يمكن لشعوب وسط افريقيا تلقي النور والسعادة".
لم يكن لديهم سياسة وفلسفة إسلامية فقط، ولكن سياسة وفلسفة البحر الأبيض المتوسط، وكان يعتقدون أن حفر برزخ السويس ضرورة دينية، وتم وضع الخط الرفيع للقناه على الخريطة بمثابة رسم علامة السلام والتآلف والوفاق بين القارات، وإيجاد خط موصل بين البشر، وهي نفس الرسالة التي حملتها فكرة المعهد العلمي الذي أنشأه نابليون بونابرت، واعادوا فكرته بشأن حفر قناة السويس ليس لتحدى الإنجليز ولكن لرفع مشعل يضيء الطريق للإنسانية.
مؤسس جماعة السان سيمونيين هو دوسان سيمون، كان ثريا وبدد ثروته على حلمه بالإصلاح الاجتماعي، ومات معدما عام 1825, ولكن ترك خلفه أفكاره التي لم يحققها وهي قناة السويس، ولكن اتباعه ومريديه قرروا أن يتجهوا الى مصر بقيادة روبسبير أنفونتان وكان عالما في الميتافيزيقا ومتصوفا، لتحقيق غاية سان سيمون بحفر قناة السويس، بحثوا بجدية فائقة المشروع ويقول مهندس المجموعة هنري فورنل معبرا عن وجهات نظره:
علينا نحن شق إحدى طرق أوروبا الجديدة
بين مصر التاريخية وبيت لحم القديمة
وصولا إلى الهند والصين
سنضع قدمنا على النيل والأخرى على القدس وترتكز على باريس
السويس هي مركز ومحو عملنا
هناك سنفعل ما ينتظره العالم لنعترف أننا رجال.
ومن اقولهم أيضا: "في مصر قبور ومهاد، وبقايا بذور. اهتمامنا هناك بالمهاد والبذور، حملة صليبية جديدة افتتحتها فرنسا الجديدة عام1799, ورات استكمالها عام 1833 وهي واعية لهدفها، فلم يعد التنازع على بعض الأمان في القبور المقدسة، وإنما زيارة ومباركة المهاد. يذهب المجوس الجدد لتقديم الهدايا تقودهم نجمة الغطاس التي تغير شكلها إلى الأبد. ستكون مصر الحديقة والمعبر بين العالمين القديمين لينفذ هذا القدر. لابد من سد للنيل وقناة بحرية للسويس، صلة وصل معبر من السويس إلى الإسكندرية"
كان انفونتان لدية عقيدة في أن يجد في مصر المرأة التي ستنهي عزلته، ويعتقد أن الغرب أنجبه هو كأب، وان الشرق عليه أن ينجب الأم التي ينجب منها جيلا يجمع بين الشرق والغرب.
في تلك الفترة كان في مكتب القنصل العام لفرنسا في مصر مهندس شاب هو فرديناند ديليسبس وقد قام الأخير باستقبال أنفونتان في الإسكندرية.
لم تكن الظروف مهيأة لإقامة مشروعات تبتعد عن التسليح ومعدات المصانع. ولم يكن في امكان الوالي محمد على أن يستغني عن الآلة الصناعية التي تخدم المجهود الحربي وانشاء مجتمع صناعي بكل مقوماته. وحاولت المجموعة الفرنسية ان تقنع محمد علي بجوي مشروع القناة ولكنه رفض وامر ببناء سدود الدلتا وتأجيل مشروع القناة.
في يناير أصدر محمد على فرمان لستة اشخاص من الجماعة برئاسة أنفونتان للسفر الى السويس لدراسة المنطقة، وهناك ظهرت بعض الصعوبات الفنية، وتوقف المشروع مؤقتا.
باشروا العمل بهمة ونشاط في مشروع القناطر الخيرية. وفي عام 1835 انتشر الطاعون في مصر، وأصاب العاملين في القناطر الخيرية، فتوقف العمل، وبدأ فريق السان سيمونيون البحث عن عمل آخر، وهرب أنفونتان الى جنوب البلاد، وفي الأقصر وجد صفوة المجتمع الذين هربوا من الوباء، وبدأ يتعلم اللغة العربية.
والغريب أن حماس الوالي محمد على لمشروعاتهم بدأ يتلاشى، واعتنق بعضهم الدين الإسلامي
وانتهت السان سيمونيه المصرية، ولكن تأثير هم لم يتلاشى.
وفي عام 1834 قام انفونتان بالاشتراك مع لومبير بوضع لجنة استشارية للعلوم والفنون كانت همزة وصل بين المعهد العلمي الذي أنشأه نابليون بونابرت والمعهد المصري الحديث الذي عاد للوجود برآسة جومار. ولكن وجودهم ساهم في انتشار اللغة الفرنسية.
اما السان سيمونيون الذين عادوا لفرنسا فسرعان ما نسوا احباطهم، وبقوا أوفياء لمصر وكتبوا كتابهم الشهير " ألحان شرقية" من وحي أغنيات شعبية تم التقاطها من ضفاف النيل، ونشيد بعنوان " الصحراء" بدد ضباب باريس وأشعرهم بأنهم يشعرون بالحنين الى الرحلة التي قاموا بها إلى بلاد الشمس . وألف كومب " رحلة الى مصر والنوبة عام 1833.